التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور  
{وَتَمَّتۡ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدۡقٗا وَعَدۡلٗاۚ لَّا مُبَدِّلَ لِكَلِمَٰتِهِۦۚ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡعَلِيمُ} (115)

هذه الجملة معطوفة على جملة : { أفغير الله أبْتغي حَكَما } [ الأنعام : 114 ] لأنّ تلك الجملة مَقولُ قول مقدّر ، إذ التّقدير : قل أفغير الله أبتغي حكماً باعتبار ما في تلك الجملة من قوله : { وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصّلاً } [ الأنعام : 114 ] فلمّا وصف الكتاب بأنّه منزّل من الله ، ووصف بوضوح الدّلالة بقوله : { وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصّلاً } [ الأنعام : 114 ] ثمّ بشهادة علماء أهل الكتاب بأنَّه من عند الله بقوله : { والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنّه منزل من ربّك } [ الأنعام : 114 ] ، أعلَم رسوله عليه الصلاة والسلام والمؤمنين بأنّ هذا الكتاب تامّ الدلالة ، ناهض الحجّة ، على كلّ فريق : من مؤمن وكافر ، صادق وعدُه ووعيده ، عادل أمره ونهيه . ويجوز أن تكون معطوفة على جملة : { وجعلنا لكلّ نبيء عَدوّاً } وما بينهما اعتراض ، كما سنبيّنه .

والمراد بالتمام معنى مجازي : إمّا بمعنى بلوغ الشّيء إلى أحسن ما يبلغه ممّا يراد منه ، فإنّ التّمام حقيقته كون الشّيء وافراً أجزاءه ، والنقصان كونه فاقدا بعض أجزائه ، فيستعار لوفرة الصّفات التي تراد من نوعه ؛ وإمّا بمعنى التّحقّق فقد يطلق التّمام على حصول المنتظر وتحقّقه ، يقال : تَم ما أخبر به فلان ، ويقال : أتم وعده ، أي حقّقه ، ومنه قوله تعالى : { وإذِ آبتلى إبراهيم رَبُّه بكلمات فأتَمَّهُن } [ البقرة : 124 ] أي عمل بهنّ دون تقصير ولا ترخّص ، وقوله تعالى : { وتمّت كلمة ربّك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا } [ الأعراف : 137 ] أي ظهر وعده لهم بقوله : { ونريد أن نمنّ على الذين استضعفوا في الأرض } [ القصص : 5 ] الآية ، ومن هذا المعنى قوله تعالى : { والله متمّ نوره } [ الصف : 8 ] أي محقّق دينه ومثبتُه ، لأنَّه جعل الإتمام في مقابلة الإطفاء المستعمل في الإزالة مجازاً أيضاً .

وقوله : { كلمات ربك } قرأه الجمهور بصيغة الجمع وقرأه عاصم ، وحمزة ، والكسائي ، ويعقوب ، وخلف : كَلمة بالإفراد فقيل : المراد بالكلمات أو الكلمة القرآن ، وهو قول جمهور المفسّرين ، ونقل عن قتادة ، وهو الأظهر ، المناسب لجعْل الجملة معطوفة على جملة : { والذين آتيناهم الكتاب } [ الأنعام : 114 ] . فأمّا على قراءة الإفراد فإطلاق الكلمة على القرآن باعتبار أنّه كتاب من عند الله ، فهو من كلامه وقوله . والكلمة والكلام يترادفان ، ويقول العربُ : كلمة زهير ، يعنون قصيدته ، وقد أطلق في القرآن ( الكلمات ) على الكتب السّماوية في قوله تعالى : { فآمِنوا بالله ورسوله النّبيء الأمّي الذي يؤمن بالله وكلماته } [ الأعراف : 158 ] أي كتبه . وأمّا على قراءة الكلمات بالجمع فإطلاقها على القرآن باعتبار ما يشتمل عليه من الجمل والآيات . أو باعتبار أنواع أغراضه من أمر ، ونهي ، وتبشير ، وإنذار ، ومواعظ ، وإخبار ، واحتجاج ، وإرشاد ، وغير ذلك . ومعنى تمامها أنّ كلّ غرض جاء في القرآن فقد جاء وافياً بما يتطلّبه القاصد منه . واستبعد ابن عطيّة أن يكون المراد من { كلمات ربك } بالجمع أو الإفراد القرآن ، واستظهر أنّ المراد منها : قول الله ، أي نفذ قوله وحكمه .

وقريب منه ما أُثر عن ابن عبّاس أنّه قال : كلمات الله وَعده . وقيل : كلمات الله : أمره ونهيه ، ووعده ، ووعيده ، وفسّر به في « الكشاف » ، وهو قريب من كلام ابن عطيّة ، لكنّ السّياق يشهد بأنّ تفسير الكلمات بالقرآن أظهر .

وانتصب { صدقاً وعدلاً } على الحال ، عند أبي عليّ الفارسي ، بتأويل المصدر باسم الفاعل ، أي صادقة وعادلة ، فهو حال من { كلمات } وهو المناسب لكون التّمام بمعنى التّحقّق ، وجعلهما الطّبري منصوبين على التّمييز ، أي تمييز النّسبة ، أي تمّت من جهة الصّدق والعدل ، فكأنّه قال : تَمّ صدقُها وعدلها ، وهو المناسب لكون التمام بمعنى بلوغ الشّيء أحسنَ ما يطلب من نوعه . وقال ابن عطيّة : هذا غير صواب . وقلت : لا وجه لعدم تصويبه .

والصّدق : المطابقة للواقع في الإخبار : وتحقيق الخبر في الوعد والوعيد ، والنّفوذ في الأمر والنّهي ، فيشمل الصّدقُ كلّ ما في كلمات الله من نوع الإخبار عن شؤون الله وشؤون الخلائق . ويطلق الصّدق مجازاً على كون الشّيء كاملاً في خصائص نوعه .

والعدل : إعطاء من يستحقّ ما يستحقّ ، ودفع الاعتداء والظلممِ على المظلوم ، وتدبير أمور النّاس بما فيه صلاحهم . وتقدم بيانه عند قوله تعالى : { وإذا حكمتم بين النّاس أن تحكموا بالعدل } في سورة النّساء ( 58 ) . فيشمل العدل كلّ ما في كلمات الله : من تدبير شؤون الخلائق في الدّنيا والآخرة .

فعلى التّفسير الأوّل للكلمات أو الكلمة ، يكون المعنى : أن القرآن بلغ أقصى ما تبلغه الكتب : في وضوح الدّلالة ، وبلاغة العبارة ، وأنّه الصّادق في أخباره ، العادل في أحكامه ، لا يُعثر في أخباره على ما يخالف الواقع ، ولا في أحكامه على ما يخالف الحقّ ؛ فذلك ضرب من التحدّي والاحتجاج على أحقّيّة القرآن . وعلى التّفسيرين الثّاني والثّالث ، يكون المعنى : نفذ ما قاله الله ، وما وَعَدَ وأوْعَد ، وما أمر ونهى ، صادقاً ذلك كلُّه ، أي غير متخلّف ، وعادلاً ، أي غير جائر . وهذا تهديد للمشركين بأنْ سيحقُّ عليهم الوعيد ، الّذي توعّدهم به ، فيكون كقوله تعالى : { وتمَّت كلمة ربّك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا } [ الأعراف : 137 ] أي تَمّ ما وعدهم به من امتلاك مشارق الأرض ومغاربها الّتي بارك فيها ، وقوله : { وكذلك حقّت كلمات ربّك على الذين كفروا أنّهم أصحاب النّار } [ غافر : 6 ] أي حقّت كلمات وعيده .

ومعنى : { لا مبدل لكلماته } نفي جنس من يبدل كلمات الله ، أي من يبطل ما أراده في كلماته .

والتّبديل تقدّم عند قوله تعالى : { قال أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير } من سورة البقرة ( 61 ) ، وتقدّم هناك بيان أنّه لا يوجد له فعل مجرّد ، وأنّ أصل مادّته هو التّبديل .

والتّبديل حقيقته جعل شيء مكان شيء آخر ، فيكون في الذّوات كما قال تعالى : { يوم تُبدّل الأرض غير الأرض } [ إبراهيم : 48 ] وقال النّابغة :

عهدتُ بها حيّاً كراماً فبُدّلت *** خنَاظِيل آجَالِ النِّعَاج الجَوافل

ويكون في الصّفات كقوله تعالى : { وليبدلنَّهم من بعد خوفهم أمنا } [ النور : 55 ] .

ويستعمل مجازاً في إبطال الشّيء ونقضه ، قال تعالى : { يريدون أن يبدّلوا كلام الله } [ الفتح : 15 ] أي يخالفوه وينقضوا ما اقتضاه ، وهو قوله : { قُل لن تتبعونا كذلكم قال الله من قبل } [ الفتح : 15 ] . وذلك أنّ النقض يستلزم الإتيان بشيء ضدّ الشّيء المنقوض . فكان ذلك اللّزوم هو علاقة المجاز . وقد تقدّم عند قوله تعالى : { فمن بدّله بعد ما سمعه } في سورة البقرة ( 181 ) . وقد استعمل في قوله : { لا مبدل لكلماته } مجازا في معنى المعارضة أو النقض على الاحتمالين في معنى التّمام من قوله : { وتمت كلمات ربك } ونفي المبَدّل كناية عن نفي التَبْديل .

فإن كان المراد بالكلمات القرآن ، كما تقدّم ، فمعنى انتفاء المبدّل لكلماته : انتفاء الإتيان بما ينقضه ويبطله أو يعارضه ، بأن يُظهر أنّ فيه ما ليس بتمام . فإن جاء أحد بما ينقضه كذباً وزوراً فليس ذلك بنقض . وإنَّما هو مكابرة في صورة النقض ، بالنّسبة إلى ألفاظ القرآن ونظمه ، وانتفاءُ ما يبطل معانيَه وحقائقَ حكمته ، وانتفاء تغيير ما شرعه وحكَم به . وهذا الانتفاء الأخير كناية عن النّهي عن أن يخالفهُ المسلمون . وبذلك يكون التّبديل مستعملاً في حقيقته ومجازه وكنايته .

ويجوز أن تكون جملة : { وتمت كلمات ربك } عطفاً على جملة : { جعلنا لكلّ نبيء عدوّا } [ الأنعام : 112 ] وما بينهما اعتراضاً ، فالكلمات مراد بها ما سنّه الله وقدّره : من جعل أعداءَ لكلّ نبي يزخرفون القول في التّضليل ، لتصغى إليهم قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة ، ويتبّعوهم ، ويقترفوا السيئات ، وأنّ المراد بالتّمام التّحقّق ، ويكون قوله : { لا مبدل لكلماته } نفي أن يقدر أحد أن يغيّر سنّة الله وما قضاه وقدّره ، كقوله : { فلن تجد لِسُنَّتِ الله تبديلاً ولن تجد لِسُنَّتِ الله تحويلاً } [ فاطر : 43 ] فتكون هذه الآية في معنى قوله : { ولقد كُذّبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذّبوا وأوذوا حتّى أتاهم نصرنا ولا مبدّل لكلمات الله } [ الأنعام : 34 ] . ففيها تأنيس للرسول صلى الله عليه وسلم وتطمين له وللمؤمنين بحلول النّصر الموعود به في إبَّانه .

وقوله : { وهو السميع العليم } تذييل لجملة : { وتمت كلمات ربك صدقاً وعدلاً لا مبدل لكلماته } أي : وهو المطّلع على الأقوال ، العليم بما في الضّمائر ، وهذا تعريض بالوعيد لمن يسعى لتبديل كلماته ، فالسّميع العالم بأصوات المخلوقات ، الّتي منها ما توحي به شياطين الإنس والجنّ ، بعضهم إلى بعض ، فلا يفوته منها شيء ؛ والعالم أيضاً بمن يريد أن يبدّل كلمات الله ، على المعاني المتقدّمة ، فلا يخفى عليه ما يخوضون فيه : من تبييت الكيد والإبطال له .

والعليم أعمّ ، أي : العليم بأحوال الخلق ، والعليم بمواقع كلماته ، ومَحَالّ تمامها ، والمنظم بحكمته لتمامها ، والموقت لآجال وقوعها .

فذكر هاتين الصّفتين هنا : وعيد لمن شملته آيات الذمّ السابقة ، ووعد لمن أُمر بالإعراض عنهم وعن افترائهم ، وبالتحاكم معهم إلى الله ، والّذين يعلمون أنّ الله أنزل كتابه بالحقّ .