الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{وَتَمَّتۡ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدۡقٗا وَعَدۡلٗاۚ لَّا مُبَدِّلَ لِكَلِمَٰتِهِۦۚ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡعَلِيمُ} (115)

قوله تعالى : { صِدْقاً وَعَدْلاً } : في نصبهما ثلاثة أوجه أحدها : أن يكونا مصدرين في موضع الحال أي : تَمَّتِ الكلمات صادقاتٍ في الوعد عادلاتٍ في الوعيد . الثاني : أنهما نصب على التمييز ، قال ابن عطية : " وهو غير صواب " وممن قال بكونه تمييزاً الطبري وأبو البقاء . الثالث : أنهما نصب على المفعول من أجله أي : تَمَّتْ لأجل الصدق والعدل الواقعين منهما ، وهو محلُّ نظر ، ذكر هذا الوجهَ أبو البقاء .

وقرأ الكوفيون هنا وفي يونس في قوله { كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُواْ } [ يونس : 33 ] { إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ } [ يونس : 96 ] موضعان ، وفي غافر : { وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ } [ الآية : 6 ] " كلمة " بالإِفراد ، وافقهم ابن كثير وأبو عمرو على ما في يونس وغافر دون هذه السورة ، والباقون بالجمع في المواضع الثلاثة . قال الشيخ : " قرأ الكوفيون هنا وفي يونس في الموضعين وفي المؤمن " كلمة " بالإِفراد ، ونافع جميع ذلك " كلمات " بالجمع ، تابعه أبو عمرو وابن كثير هنا " قلت : كيف نسي ابن عامر ؟ لا يقال إنه قد أسقطه الناسخ وكان الأصل " ونافع وابن عامر " لأنه قال " تابعه " ولو كان كذلك لقال " تابعهما " . ووجه الإِفراد إرادة الجنس وهو نظير : رسالته ورسالاته . وقراءةُ الجمع ظاهرةٌ لأنَّ كلماته تعالى متبوعة بالنسبة إلى الأمرِ و النهي والوعد والوعيد ، وقد أُجْمع على الجمع في قوله { لاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ } { وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ } [ الأنعام : 34 ] .

وقوله { لاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ } : يحتمل أن لا يكونَ لها محلٌّ من الإِعراب لأنها مستأنفة ، وأن تكونَ جملةً حالية من فاعل " تَمَّتْ " . فإن قلت : فأين الرابط بين ذي الحال والحال ؟ فالجواب أن الرَّبْطَ حصل بالظاهر ، والأصل : لا مبدِّل لها ، وإنما أُبْرزت ظاهرة تعظيماً لها ولإِضافتها إلى لفظ الجلالة الشريفة . قال أبو البقاء : " ولا يجوز أَنْ يكونَ حالاً من " ربك " لئلا يُفْصَلَ بين الحال وصاحبها بالأجنبي وهو " صدقاً وعدلاً " إلا أن يُجْعَلَ " صدقاً وعدلاً " حالاً من " ربك " لا من " الكلمات " . قلت : فإنه إذا جعل " صدقاً وعدلاً " حالاً من " ربك " لم يَلْزَمْ منه فَصْلٌ لأنهما حالان لذي حال ، ولكنه قاعدته تمنع تعدُّدَ الحال لذي حال واحدة ، وتمنع أيضاً مجيء الحال من المضاف إليه ، وإن كان المضاف بعض الثاني ، ولم يمنع هنا بشيء من ذلك . والرسم في " كلمات " في المواضع التي أشرْتُ إلى اختلاف القراء فيها مُحْتَمِلٌ لخلافهم ، فإنه في المصحف الكريم مِنْ غير ألفٍ بعد الميم .