التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور  
{أُبَلِّغُكُمۡ رِسَٰلَٰتِ رَبِّي وَأَنصَحُ لَكُمۡ وَأَعۡلَمُ مِنَ ٱللَّهِ مَا لَا تَعۡلَمُونَ} (62)

جملة : { أبلغكم رسالات ربي } صفة لرسول ، أو مستأنفة ، والمقصود منها إفادة التّجدّد ، وأنّه غير تاركٍ التّبليغَ من أجل تكذيبهم تأييساً لهم من متابعته إياهم ، ولولا هذا المقصد لكان معنى هذه الجملة حاصلاً من معنى قوله : { ولكني رسول } ، ولذلك جمع الرّسالات لأنّ كلّ تبليغ يتضمّن رسالة بما بلَّغَه ، ثمّ إن اعتُبرت جملة : { أبلغكم } صفة ، يكُن العدول عن ضمير الغيبة إلى ضمير التّكلّم في قوله : { أبلغكم } وقولِه : { ربي } التفاتاً ، باعتبار كون الموصوف خبراً عن ضمير المتكلّم ، وإن اعتُبرت استينافاً ، فلا التفات .

والتّبليغ والإبلاغ : جعل الشّيء بالغاً ، أي واصلاً إلى المكان المقصود ، وهو هنا استعارة للإعلام بالأمر المقصود علمُه ، فكأنّه ينقله من مكان إلى مكان .

وقرأ الجمهور : { أُبَلِّغكم } بفتح الموحّدة وتشديد اللاّم وقرأه أبو عَمرو ، ويعقوب : بسكون الموحدة وتخفيف اللاّم من الإبلاغ والمعنى واحد .

ووجه العدول عن الإضمار إلى الإظهار في قوله : { رسالات ربي } هو ما تؤذن به إضافة الرّب إلى ضمير المتكلّم من لزوم طاعته ، وأنّه لا يسعه إلاّ تبليغُ ما أمره بتبليغه ، وإن كَرِه قومه .

والنّصح والنّصيحة كلمة جامعة ، يعبّر بها عن حسن النّيّة وإرادة الخير من قولٍ أو عملٍ ، وفي الحديث : « الدّين النّصحية » وأن تُناصحوا من ولاّه الله أمركم . ويكثر إطلاق النّصح على القول الذي فيه تنبيه للمخاطب إلى ما ينفعه ويدفع عنه الضّر .

وضدّه الغشّ . وأصل معناه أن يتعدّى إلى المفعول بنفسه ، ويكثر أن يُعدّى إلى المفعول بلام زائدة دالة على معنى الاختصاص للدّلالة على أنّ النّاصح أراد من نصحه ذات المنصوح ، لا جلب خير لنفس النّاصح ، ففي ذلك مبالغة ودلالة على إمحاض النصيحة ، وأنّها وقعت خالصة للمنصوح ، مقصوداً بها جانبه لا غير ، فربّ نصيحة ينتَفع بها النّاصح فيقصد النّفعين جميعاً ، وربّما يقع تفاوت بين النّفعين فيكون ترجيح نفع النّاصح تقصيراً أو إجحافاً بنفع المنصوح .

وفي الإتيان بالمضارع دلالة على تجديد النّصح لهم ، وإنّه غير تاركه من أجل كراهيتهم أو بذاءتهم .

وعقب ذلك بقوله : { وأعلم من الله ما لا تعلمون } جمعاً لمعان كثيرة ممّا تتضمّنه الرّسالة وتأييداً لثباته على دوام التّبليغ والنّصح لهم ، والاستخفاف بكراهيتهم وأذاهم ، لأنّه يعلم ما لا يعلمونه ممّا يحمله على الاسترسال في عمله ذلك ، فجاء بهذا الكلام الجامع ، ويتضمّن هذا الإجمالُ البديعُ تهديداً لهم بحلول عذاب بهم في العاجل والآجل ، وتنبيهاً للتّأمّل فيما أتاهم به ، وفتحاً لبصائرهم أن تتطلب العلم بما لم يكونوا يعلمونه ، وكل ذلك شأنه أن يبعثهم على تصديقه وقبوللِ ما جاءهم به .

و { من } ابتدائية أي : صار لي علم وارد من الله تعالى ، وهذه المعاني التي تضمّنها هذا الاستدراك هي ما يُسلِّم كلّ عاقل أنّها من الهدى والصّلاح ، وتلك هي أحواله ، وهم وصفوا حاله بأنّه في ضلال مبين ، ففي هذا الاستدراك نعي على كمال سفاهة عقولهم .

وانتقَل إلى كشف الخطأ في شبهتهم فعطف على كلامه قولَه : { أو عجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم } مفتتحاً الجملةَ بالاستفهام الإنكاري بعد واو العطف ، وهذا مشعر بأنّهم أحالوا أن يكون رسولاً ، مستدلّين بأنّه بشر مثلهم ، كما وقعت حكايته في آية أخرى { ما هذا إلاّ بشر مثلكم يريد أن يتفضّل عليكم } [ المؤمنون : 24 ] .

واختير الاستفهام دون أن يقول : لا عَجب ، إشارة إلى أنّ احتمال وقوع ذلك منهم ممّا يتردّد فيه ظن العاقل بالعقلاء .