مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{أُبَلِّغُكُمۡ رِسَٰلَٰتِ رَبِّي وَأَنصَحُ لَكُمۡ وَأَعۡلَمُ مِنَ ٱللَّهِ مَا لَا تَعۡلَمُونَ} (62)

ثم إنه عليه السلام لما نفى عن نفسه العيب الذي وصفوه به ، ووصف نفسه بأشرف الصفات وأجلها ، وهو كونه رسولا إلى الخلق من رب العالمين . ذكر ما هو المقصود من الرسالة ، وهو أمران : الأول : تبليغ الرسالة . والثاني : تقرير النصيحة . فقال : { أبلغكم رسالات ربي وأنصح لكم } وفيه مسائل :

المسألة الأولى : قرأ أبو عمرو { أبلغكم } بالتخفيف ، من أبلغ ، والباقون بالتشديد . قال الواحدي : وكلا الوجهين جاء في التنزيل ، فالتخفيف قوله : { فإن تولوا فقد أبلغتكم } والتشديد { فما بلغت رسالته } .

المسألة الثانية : الفرق بين تبليغ الرسالة وبين النصيحة هو أن تبليغ الرسالة معناه : أن يعرفهم أنواع تكاليف الله وأقسام أوامره ونواهيه ، وأما النصيحة : فهو أنه يرغبه في الطاعة ، ويحذره عن المعصية ، ويسعى في تقرير ذلك الترغيب والترهيب لأبلغ وجوه ، وقوله : { رسالات ربي } يدل على أنه تعالى حمله أنواعا كثيرة من الرسالة . وهي أقسام التكاليف من الأوامر والنواهي ، وشرح مقادير الثواب والعقاب في الآخرة ، ومقادير الحدود والزواجر في الدنيا ، وقوله : { وأنصح لكم } قال الفراء : لا تكاد العرب تقول : نصحتك ، إنما تقول : نصحت لك ، ويجوز أيضا نصحتك . قال النابغة :

نصحت بني عوف فلم يتقبلوا *** رسولي ولم تنجح لديهم رسائلي

وحقيقة النصح الإرسال إلى المصلحة مع خلوص النية من شوائب المكروه ، والمعنى : أني أبلغ إليكم تكاليف الله ، ثم أرشدكم إلى الأصوب الأصلح ، وأدعوكم إلى ما دعاني ، وأحب إليكم ما أحبه لنفسي .

ثم قال : { وأعلم من الله ما لا تعلمون } وفيه وجوه : الأول : واعلم أنكم إن عصيتم أمره عاقبكم بالطوفان . الثاني : واعلم أنه يعاقبكم في الآخرة عقابا شديدا خارجا عما تتصوره عقولكم . الثالث : يجوز أن يكون المراد : واعلم من توحيد الله وصفات جلاله ما لا تعلمون ويكون المقصود من ذكر هذا الكلام : حمل القوم على أن يرجعوا إليه في طلب تلك العلوم .