التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور  
{إِذَا ٱلشَّمۡسُ كُوِّرَتۡ} (1)

مقدمة السورة:

لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سماها تسمية صريحة . وفي حديث الترمذي عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من سره أن ينظر إلى يوم القيامة كأنه رأي عين فليقرأ إذا الشمس كورت ، وإذا السماء انفطرت ، وإذا السماء انشقت . وليس هذا صريحا في التسمية لأن صفة يوم القيامة في جميع هذه السورة بل هو في الآيات الأول منها ، فتعين أن المعنى : فليقرأ هذه الآيات ، وعنونت في صحيح البخاري وفي جامع الترمذي { سورة إذا الشمس كورت } ، وكذلك عنونها الطبري .

وأكثر التفاسير يسمونها { سورة التكوير } وكذلك تسميتها في المصاحف وهو اختصار لمدلول { كورت } .

وتسمى { سورة كورت } تسمية بحكاية لفظ وقع فيها . ولم يعدها في الإتقان مع السور التي لها أكثر من اسم .

وهي مكية بالاتفاق .

وهي معدودة السابعة في عداد نزول سور القرآن ، نزلت بعد سورة الفاتحة وقبل سورة الأعلى .

وعدد آيها تسع وعشرون .

أغراضها

اشتملت على تحقيق الجزاء صريحا .

وعلى إثبات البعث وابتدىء بوصف الأهوال التي تتقدمه وأنتقل إلى وصف أهوال تقع عقبه .

وعلى التنويه بشأن القرآن الذي كذبوا به لأنه أوعدهم بالبعث زيادة لتحقيق وقوع البحث إذ رموا النبي صلى الله عليه وسلم بالجنون والقرآن بأنه يأتيه به شيطان .

الافتتاح ب { ذا } افتتاح مشوِّق لأن { إذا } ظرف يستدعي متعلَّقاً ، ولأنه أيضاً شرط يؤذن بذكر جَواب بعده ، فإذا سمعه السامع ترقب ما سيأتي بعده فعند ما يسمعه يتمكن من نفسه كمال تمكّن ، وخاصة بالإطناب بتكرير كلمة { إذا } .

وتعدّدِ الجمل التي أضيف إليها اثنتيْ عشرة مرة ، فإعادة كلمة { إذا } بعد واو العطف في هذه الجمل المتعاطفة إطناب ، وهذا الإِطناب اقتضاهُ قصد التهويل ، والتهويل من مقتضيات الإِطناب والتكرير ، كما في قصيدة الحارث بن عَبَّاد البَكري :

قرّبا مَربط النعامة مني الخ

وفي إعادة { إذا } إشارة إلى أن مضمون كل جملة من هذه الجمل الثنتي عشرة مستقل بحصول مضمون جملة الجواب عند حصوله بقطع النظر عن تفاوت زمان حصول الشروط فإن زمن سؤال الموءودة ونشر الصحف أقرب لعلم النفوس بما أحضرت أقرب من زمان تكوير الشمس وما عطف عليه مما يحصل قبل البعث .

وقد ذكر في هذه الآيات اثنا عشر حدثاً فستة منها تحصل في آخر الحياة الدنيوية ، وستة منها تحصل في الآخرة .

وكانت الجمل التي جعلت شروطاً ل { إذا } في هذه الآية مفتتحة بالمسند إليه المخبَر عنه بمسندٍ فعْلِيَ دون كونها جملاً فعلية ودون تقدير أفعال محذوفة تفسرها الأفعال المذكورة وذلك يؤيد قول نحاة الكوفة بجواز وقوع شرط { إذا } جملة غيرَ فعلية وهو الراجع لأن { إذا } غير عريقة في الشرط . وهذا الأسلوب لقصد الاهتمام بذكر ما أسندت إليه الأفعال التي يغلب أن تكون شروطاً ل { إذا } لأن الابتداء بها أدخل في التهويل والتشويق وليفيد ذلك التقديمُ على المسند الفعلي تَقَوِّيَ الحكم وتأكيده في جميع تلك الجمل رداً على إنكار منكريه فلذلك قيل : { إذا الشمس كورت } ولم يقل : إذا كورت الشمس ، وهكذا نظائره .

وجواب الشروط الاثني عشر هو قوله : { علمت نفس ما أحضرت } وتتعلق به الظروف المشْرَبة معنى الشرط .

وصيغة الماضي في الجمل الثِنْتَي عشرة الواردة شروطاً ل { إذا } مستعملةٌ في معنى الاستقبال تنبيهاً على تحقق وقوع الشرط .

وتكوير الشمس : فساد جِرمها لتداخل ظاهرها في باطنها بحيث يختل تركيبها فيختل لاختلاله نظام سيرها ، من قولهم : كَوَّر العمامة ، إذا أدخل بعضها في بعض ولفّها ، وقريب من هذا الإطلاق إطلاق الطيّ في قوله تعالى : { يوم نطوي السماء كطي السجل للكتاب } [ الأنبياء : 104 ] .

وفسر { كورت } بمعنى غورت . رواهُ الطبري عن ابن جبير وقال : هي كلمة معربة عن الفارسية وأن أصلها بالفارسية كُور بِكْر ( بضم الكاف الأولى وسكون الراء الأخيرة ) وعلى ذلك عُدّت هذه الكلمة مما وقع في القرآن من المعرّب . وقد عدها ابن السبكي في نظمه الكلمات المعربة في القرآن .

وإذا زال ضوء الشمس انكدرت النجوم لأن معظمها يستنير من انعكاس نور الشمس عليها .