المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَقَالُواْ لَوۡلَا يَأۡتِينَا بِـَٔايَةٖ مِّن رَّبِّهِۦٓۚ أَوَلَمۡ تَأۡتِهِم بَيِّنَةُ مَا فِي ٱلصُّحُفِ ٱلۡأُولَىٰ} (133)

ثم أخبر تعالى عن طوائف من الكفار قالوا عن محمد صلى الله عليه وسلم ، { لولا يأتينا بآية من ربه } أي بعلامة مما اقترحناها عليه وبما يبهر ويضطر .

قال القاضي أبو محمد : ورسل الله إنما اقترنت معهم آيات معرضة للنظر محفوفة بالبراهين العقلية ليضل من سبق في علم الله تعالى ضلاله ويهتدي من سبق في علم الله تعالى هداه ، فيوبخهم الله تعالى بقوله { أو لم تأتهم بينة ما في الصحف الأولى } يعني التوراة أعظم شاهد وأكبر آية له . وقرأ نافع وأبو عمرو وحفص عن عاصم «تأتهم » على لفظة { بينة } وقرأ الباقون وأبو بكر عن عاصم «يأتهم » بالياء على المعنى ، وقرأت فرقة «بينةُ ما » بالإضافة إلى { ما } وقرأت فرقة «بينةٌ » بالتنوين ، و { ما } على هذه القراءة فاعلة ب «تأتي » ، وقرأ الجمهور «في الصحُف » بضم الحاء ، وقرأت فرقة «في الصحْف » بسكونها .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَقَالُواْ لَوۡلَا يَأۡتِينَا بِـَٔايَةٖ مِّن رَّبِّهِۦٓۚ أَوَلَمۡ تَأۡتِهِم بَيِّنَةُ مَا فِي ٱلصُّحُفِ ٱلۡأُولَىٰ} (133)

رجوع إلى التنويه بشأن القرآن ، وبأنه أعظم المعجزات . وهو الغرض الذي انتقل منه إلى أغراض مناسبة من قوله { وكذلك أنزلناه قرآناً عربياً وصرفنا فيه من الوعيد لعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكراً } [ طه : 113 ] .

والمناسبة في الانتقال هو ما تضمنه قوله { فاصبر على ما يقولون } [ طه : 130 ] فجيء هنا بشِنَع من أقوالهم التي أمر الله رسوله بأن يصبر عليها في قوله { فاصبر على ما يقولون . فمن أقوالهم التي يقصدون منها التعنت والمكابرة أن قالوا : لولا يأتينا بآية من عند ربّه فنؤمن برسالته ، كما قال تعالى : { فليأتنا بآية كما أرسل الأولون } [ الأنبياء : 5 ] .

ولولا حرف تحضيض . وجملة { أو لَمْ تأْتِهِم بيِّنَةُ ما في الصُّحففِ الأُولى } في موضع الحال ، والواو للحال ، أي قالوا ذلك في حال أنّهم أتتهم بيّنة ما في الصحف الأولى . فالاستفهام إنكاري ، أنكر به نفي إتيان آية لهم الذي اقتضاه تحضيضهم على الإتيان بآية .

والبيّنة : الحجة .

و { الصحف الأولى } : كتب الأنبياء السابقين ، كقوله تعالى : { إن هذا لفي الصحف الأولى صحف إبراهيم وموسى } [ الأعلى : 18 19 ] .

والصحف : جمع صحيفة . وهي قطعة من ورَق أو كاغَدَ أو خرقة يكتب فيها . ولما كان الكتاب مجموع صحف أطلق الصحف على الكتب .

ووجه اختيار { الصحف هنا على الكُتب أن في كلّ صحيفة من الكتب علماً ، وأن جميعه حَواه القرآن ، فكان كلّ جزء من القرآن آية ودليلاً .

وهذه البيّنة هي محمد وكتابُه القرآن ، لأنّ الرسول موعود به في الكتب السالفة ، ولأنّ في القرآن تصديقاً لما في تلك الكتب من أخبار الأنبياء ومن المواعظ وأصول التشريع . وقد جاء به رسول أميّ ليس من أهل الكتاب ولا نشأ في قوم أهل علم ومزاولة للتاريخ مع مجيئه بما هو أوضح من فلق الصبح من أخبارهم التي لم يستطع أهل الكتاب إنكارها ، قال تعالى : { الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وإن فريقاً منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون } [ البقرة : 146 ] ، وكانوا لا يحققون كثيراً منها بما طرأ عليهم من التفرق وتلاشي أصول كتبهم وإعادة كتابة كثير منها بالمعنى على حسب تأويلات سقيمة .

وأما القرآن فما حواه من دلائل الصدق والرشاد ، وما امتاز به عن سائر الكتب من البلاغة والفصاحة البالغتين حد الإعجاز ، وهو ما قامت به الحجّة على العرب مباشرة وعلى غيرهم استدلالاً . وهذا مثل قوله تعالى : { لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البيّنة رسول من الله يتلو صحفاً مطهرة } [ البينة : 12 ] .

وقرأ نافع ، وحفص ، وابن جماز عن أبي جعفر { تأتِهم بتاء المضارع للمؤنث . وقرأه الباقون بتحتية المذكر لأنّ تأنيث بيّنة غير حقيقي ، وأصل الإسناد التذكير لأنّ التذكير ليس علامة ولكنه الأصل في الكلام .