محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{وَقَالُواْ لَوۡلَا يَأۡتِينَا بِـَٔايَةٖ مِّن رَّبِّهِۦٓۚ أَوَلَمۡ تَأۡتِهِم بَيِّنَةُ مَا فِي ٱلصُّحُفِ ٱلۡأُولَىٰ} (133)

{ وَقَالُوا لَوْلَا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِّن رَّبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِم بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى ( 133 ) } .

{ وَقَالُوا لَوْلَا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِّن رَّبِّهِ } يعنون ما تعنتوا في اقتراحه مما تقدم ، في سورة بني إسرائيل ، من قوله تعالى : { وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا * أو تكون لك جنة من نخيل وعنب . . . } الآية .

وقوله تعالى : { أَوَلَمْ تَأْتِهِم بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى } أي : أو لم يأتهم بيان ما في الكتب التي قبل هذا الكتاب ، من أنباء الأمم من قبلهم ، التي أهلكناهم لما سألوا الآيات ، فكفروا بها لما أتتهم ، كيف عجلنا لهم العذاب ، وأنزلنا بهم بأسنا بكفرهم بها . يقول : فماذا يؤمنهم إن أتتهم الآية ، أن يكون حالهم حال أولئك . هذا ما قاله ابن جرير .

وذهب غيره إلى أن المعنى : أو لم يأتهم آية هي أم الآيات وأعظمها ، وهي معجزة القرآن المبينة لما في الكتب الأولى من التوراة والإنجيل والزبور . مع أن الآتي بها أمي لم يرها ولو يتعلم ممن علمها . فنقب منها على الصحيح من أنبائها فصدقه ، وعلى الباطل المحرف ففنده . وفيه إشعار بكفاية التنزيل في الإعجاز والبرهان كما قال تعالى في سورة العنكبوت : { وقالوا لولا أنزل عليه آيات من ربه * قل إنما الآيات عند الله وإنما أنا نذير مبين * أو لم يكفهم أنا نزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم ، إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون } ولذلك قال أحد حكماء الإسلام . إن الخارق للعادة الذي يعتمد عليه الإسلام في دعوته إلى التصديق برسالة النبي صلى الله عليه وسلم هو الخارق الذي تواتر خبره ولم ينقطع أثره . وهو الدليل وحده . وما عدا مما ورد في الأخبار ، سواء صح سندها أو اشتهر أو ضعف أو وهى ، فليس مما يوجب القطع عند المسلمين . فإذا أورد في مقام الاستدلال ، فهو على سبيل التقوية للعقد لمن حصل أصله ، وفضل من التأكيد لمن سلمه من أهله . ذلك الخارق المتواتر المعول عليه في الاستدلال لتحصيل اليقين ، هو القرآن وحده . والدليل على أنه معجزة خارقة للعادة ، تدل على أن موحيه هو الله وحده وليس من اختراع البشر ، هو أنه جاء على لسان أمي لم يتعلم الكتاب ولم يمارس العلوم ، وقد نزل على وتيرة واحدة هاديا للضال مقوما للمعوج كافلا بنظام عام للحياة من يهتدي به من الأمم ، منقذا لهم من خسران كانوا فيه . وهلاك كانوا أشرفوا عليه . وهو مع ذلك من بلاغة الأسلوب على ما لم يرتق إليه كلام سواه ، حتى لقد دعي الفصحاء والبلغاء ، أن يعارضوه بشيء من مثله ، فعجزوا ولجأوا إلى المجالدة بالسيوف ، وسفك الدماء واضطهاد المؤمنين به ، إلى أن ألجاؤهم إلى الدفاع عن حقهم ، وكان من أمرهم ما كان من انتصار الحق على الباطل وظهور شمس الإسلام تمد عالمها بأضوائها ، وتنشر أنوارها في أجوائها . وهذا الخارق قد دعا الناس إلى النظر فيه بعقولهم . و طولبوا بأن يأتوا في نظرهم على آخر ما تنتهي إليه قوتهم ؛ فإما وجدوا طريقا لإبطال إعجازه أو كونه لا يصلح دليلا على المدعي ؛ فعليهم أن يأتوا به ، قال تعالى : { وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فاتوا بسورة من مثله } وقال : { أفلا يتدبرون القرآن ، ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا } وقال غير ذلك ، مما هو مطالبة بمقاومة الحجة بالحجة . ولم يطالبهم بمجرد التسليم على رغم من العقل .

معجزة القرآن جامع من القول والعلم . وكل منهما مما يتناوله العقل بالفهم . فهي معجزة عرضت على العقل وعرفته القاضي فيها . وأطلقت له حق النظر في أحنائها . ونشر ما انطوى في أثنائها . وله منها حظه الذي لا ينتقص . فهي معجزة أعجزت كل طوق أن يأتي بمثلها . ولكنها دعت كل قدرة أن تتناول ما تشاء منها . أما معجزة موت حي بلا سبب معروف للموت ، أو حياة ميت أو إخراج شيطان من جسم ، أو شفاء علة من بدن ، فهي مما ينقطع عنده العقل ويجمد لديه الفهم . وإنما ياتي بها الله على يد رسله لإسكات أقوام غلبهم الوهم ولم تضئ عقولهم بنور العلم . ، وهكذا يقيم الله بقدرته من الآيات للأمم على حسب الاستعدادات .

وقال فاضل آخر : قضت مراحم الله جل شأنه أن يكون الأكوان في الطبيعة على ترتيب محكم ، ينطق بلسان الصمت للمتبصر ، ويظهر بلباس الوضوح للمتفكر ويحبب إليه الانتقال منه إلى غيره بدون أن يشعر بملل ولا سآمة ، ولا يؤوب من استبصاره بندامة ، بدون هذا الاعتبار بالعقل ، لا يأتي للنفس أن تصح عقيدتها ، ولا يأتي لها تبعا لذلك أن تسكن من اضطرابها . هذا ، ولا ننكر أنه قد مضى على النوع الإنساني زمن كان فيه العقل في دور الطفولية . وكان يكفيه في الإيمان أن يندهش لأمر خارق للطبيعة ، يعطل من سير نواميسها وقتا ما . وكان الله سبحانه وتعالى يرأف بعباده فيرسل إليهم رسلا يمتعهم بخصائص تعجز عن اكتناه سرها عقولهم . وتندهش لها ألبابهم ، فيستدلون بهذه المعجزات على صدق الرسول وضرورة اتباعه ، وأما الآن ، حيث بلغ العقل أشده ، والنوع الإنساني رشده ، فلا تجدي فيه معجزة ، ولا تنفع فيه غريبة . لأن الشكوك قد كثرت مع كثرة المواد العلمية . فإن حدث حادث من هذا القبيل رموا فاعله بالتدليس أولا ، ثم إذا ظهر لهم براءته منه أخذوا يعللون معجزته بكل أنواع التعليلات . هذا من جهة . ومن جهة أخرى ، فإن طائفة الأسبيريت الروحيين في أوروبا ، تعمل الآن من الأعمال المدهشة الخارقة لنواميس الطبيعة ، ما لو رآه الجهلاء لظنوا به أنه من أكبر المعجزات ، مع أن القوم لا يدعون النبوة ، ولا يزعمون الرسالة . نعم ، لا ننكر أن أعمال هذه الطائفة ليست من نوع معجزات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ولكنه بدون شك ، يقلل من أهميتها في نظر الذين يقفون مع ظواهر الأشياء .

ومما يدل على أن هذه القرون الأخيرة لا تروج فيها مسائل المعجزات ، تكذيب علماء أوروبا بكل المعجزات السابقة . وهو ، وإن كان تهورا منهم ، إلا أنهم مصيبون في قولهم إننا في زمان لا يجدي فيه للاعتقاد إلا النور العقلي والدليل العلمي . لهذه الأسباب جاءت الشريعة الإسلامية تدعو إلى السبيل الحق ، ببدائه العقل ، وقواعد العلم . صارفة النظر عن المعجزات وإظهار المدهشات . لعلم الله سبحانه وتعالى بأنه سيأتي زمان تؤثر فيه المقررات العلمية على القوة العقلية ، ما لا تؤثر عليها الخوارق للنواميس الطبيعية . انتهى .