المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{ٱنظُرۡ كَيۡفَ كَذَبُواْ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِمۡۚ وَضَلَّ عَنۡهُم مَّا كَانُواْ يَفۡتَرُونَ} (24)

وقوله تعالى { انظر كيف كذبوا } الآية ، الخطاب لمحمد عليه السلام ، والنظر نظر القلب ، وقال كذبوا في أمر لم يقع إذ هي حكاية يوم القيامة ، فلا إشكال في استعمال الماضي فيها موضع المستقبل ويفيدنا استعمال الماضي تحقيقاً ما في الفعل وإثباتاً له ، وهذا مهيع في اللغة ، ومنه قول الربيع بن ضبع الفزاري : [ المنسرح ]

أَصْبَحْتُ لا أحْمِلُ السِّلاَحَ ولا . . . أمْلِكُ رَأْسَ البَعيِرِ إن نَفَرَا

يريد أن ينفر { وضل عنهم } معناه ذهب افتراؤهم في الدنيا وكذبهم بادعائهم لله تبارك وتعالى الشركاء{[4870]} .


[4870]:- معنى كلامه هذا أن [ما] هنا مصدرية. وقد ذهب الزمخشري إلى أنها بمعنى الذي، قال المعنى: "وغاب عنهم ما كانوا يفترون ألوهيته وشفاعته". وهذا هو معنى ما قاله الحسن وأبو علي إذ قالا: المعنى: "لم يغن عنهم شيئا ما كانوا يعبدون من الأصنام في الدنيا".
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{ٱنظُرۡ كَيۡفَ كَذَبُواْ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِمۡۚ وَضَلَّ عَنۡهُم مَّا كَانُواْ يَفۡتَرُونَ} (24)

قوله : { انظر كيف كذبوا على أنفسهم } جعل حالهم المتحدّث عنه بمنزلة المشاهد ، لصدوره عمّن لا خلاف في أخباره ، فلذلك أمر سامعه أو أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بما يدلّ على النظر إليه كأنّه مشاهد حاضر .

والأظهر أنّ { كيف } لمجرّد الحال غير دالّ على الاستفهام . والنظر إلى الحالة هو النظر إلى أصحابها حين تكيّفهم بها . وقد تقدّمت له نظائر منها قوله تعالى : { انظر كيف يفترون على الله الكذب } في سورة [ النساء : 50 ] . وجعل كثير من المفسّرين النظر هنا نظراً قلبياً فإنّه يجيء كما يجيء فعل الرؤية فيكون معلّقاً عن العمل بالاستفهام ، أي تأمّل جواب قول القائل : كيف يفترون على الله الكذب تجده جواباً واضحاً بيّناً .

ولأجل هذا التحقّق من خبر حشرهم عبّر عن كذبهم الذي يحصل يوم الحشر بصيغة الماضي في قوله : { كذبوا على أنفسهم } . وكذلك قوله { وضلّ عنهم ما كانوا يفترون } .

وفعل ( كذب ) يعدّى بحرف ( على ) إلى من يخبّر عنه الكاذب كذباً مثل تعديته في هذه الآية ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم { من كذب عليّ معتمداً فليتبوّأ مقعده من النار } ، وأمّا تعديته إلى من يخبره الكاذب خبراً كذباً فبنفسه ، يقال : كذبك ، إذا أخبرك بكذب .

وضلّ بمعنى غاب كقوله تعالى : { ضلَلْنا في الأرض } [ السجدة : 10 ] ، أي غيّبنا فيها بالدفن . و { ما } موصولة و { يفترون } صلتها ، والعائد محذوف ، أي يختلقونه وماصْدق ذلك هو شركاؤهم . والمراد : غيبة شفاعتهم ونصرهم لأنّ ذلك هو المأمول منهم فلمّا لم يظهر شيء من ذلك نُزّل حضورهم منزلة الغيبة ، كما يقال : أُخِذتَ وغاب نصيرك ، وهو حاضر .