البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{ٱنظُرۡ كَيۡفَ كَذَبُواْ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِمۡۚ وَضَلَّ عَنۡهُم مَّا كَانُواْ يَفۡتَرُونَ} (24)

{ انظر كيف كذبوا على أنفسهم } الخطاب للرسول عليه السلام والنظر قلبي و { كيف } منصوب ب { كذبوا } والجملة في موضع نصب بالنظر لأن { انظر } معلقة و { كذبوا } ماض وهو في أمر لم يقع لكنه حكاية عن يوم القيامة ولا إشكال في استعمال الماضي فيها موضع المستقبل تحقيقاً لوقوعه ولا بد .

قال الزمخشري ( فإن قلت ) : كيف يصح أن يكذبوا حين يطلعون على حقائق الأمور على أن الكذب والجحود لا وجه لمنفعته .

( قلت ) : الممتحن ينطق بما ينفعه وبما لا ينفعه من غير تمييز بينهما حيرة ودهشاً ، ألا تراهم يقولون { ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون } وقد أيقنوا بالخلود ولم يشكوا فيه وقالوا : يا مالك ليقض علينا ربك وقد علموا أنه لا يقضي عليهم ، وأما قول من يقول معناه و { ما كنا مشركين } عند أنفسنا أو ما علمنا أنا على خطأ في معتقدنا ، وحمل قوله : انظر كيف كذبوا على أنفسهم } يعني في الدنيا فتحمل وتعسف وتحريف لأفصح الكلام إلى ما هو عيّ وإفحام ، لأن المعنى الذي ذهبوا إليه ليس هذا الكلام بمترجم عنه ولا بمنطبقٍ عليه ، وهو ناب عنه أشدّ النبوّ وما أدري ما يصنع من ذلك تفسيره بقوله : { يوم يبعثهم الله جميعاً فيحلفون له كما يحلفون لكم ويحسبون أنهم على شيء ، ألا إنهم هم الكاذبون }

بعد قوله : { ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون } فشبه كذبهم في الآخرة بكذبهم في الدنيا ؛ انتهى .

وقول الزمخشري .

وأما قول من يقول فهو إشارة إلى أبي عليّ الجبائي والقاضي عبد الجبار ومن وافقهما أن أهل القيامة لا يجوز إقدامهم على الكذب واستدلوا بأشياء تؤول إلى مسألة القبح والحسن ، وبناء ما قالوه عليها ذكرها أبو عبد الله الرازي في تفسيره فتطالع هناك ، إذ مسألة التقبيح والتحسين خالفوا فيها أهل السنة وجمهور المفسّرين ، يقولون : إن الكفار يكذبون في الآخرة وظواهر القرآن دالة على ذلك وقد خالف الزمخشري هنا أصحابه المعتزلة ووافق أهل السنة .

{ وضل عنهم ما كانوا يفترون } يحتمل أن تكون { ما } مصدرية وإليه ذهب ابن عطية قال : معناه ذهب افتراؤهم في الدنيا وكفرهم بادعائهم لله الشركاء .

وقيل : من اليمين الفاجرة في الدار الآخرة وقيل عزب عنهم افتراؤهم للحيرة التي لحقتهم ، ويحتمل أن تكون بمعنى الذي وإليه ذهب الزمخشري .

قال : وغاب { عنهم ما كانوا يفترون } ألوهيته وشفاعته وهو معنى قول الحسن وأبي عليّ قالا : لم يغن عنهم شيئاً ما كانوا يعبدون من الأصنام في الدنيا .

وقيل : هو قولهم ما كنا { نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى } فذهب عنهم حيث علموا أن لا تقريب منهم ، ويحتمل أن يكون { وضل } عطف على كذبوا فيدخل في خبر { انظر } ويحتمل أن يكون إخباراً مستأنفاً فلا يدخل في حيزه ولا يتسلط النظر عليه .