المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَأَنزَلۡنَا مِنَ ٱلۡمُعۡصِرَٰتِ مَآءٗ ثَجَّاجٗا} (14)

واختلف الناس في { المعصرات } ، فقال الحسن بن أبي الحسن وأبيّ بن كعب وابن جبير وزيد بن أسلم ومقاتل وقتادة : هي السموات ، وقال ابن عباس وأبو العالية والربيع والضحاك : { المعصرات } السحاب القاطرة ، وهو مأخوذ من العصر ، لأن السحاب ينعصر فيخرج منه الماء وهذا قول الجمهور وبه فسر عبيد الله بن الحسن بن محمد العنبري القاضي بيت حسان : [ الكامل ]

كلتاهما حلب العصير{[11565]} . . . وقال بعض من سميت هي السحاب التي فيها الماء تمطر كالمرأة المعصر وهي التي دنا حيضها ولم تحض بعد ، وقال ابن الكيسان : قيل : للسحاب معصرات من حيث تغيث فهي من المعصرة ومنه قوله تعالى : { وفيه يعصرون }{[11566]} [ يوسف : 49 ] قال ابن عباس ومجاهد وقتادة : { المعصرات } الرياح ، لأنها تعصر السحاب ، وقرأ ابن الزبير وابن عباس والفضل بن عباس وقتادة وعكرمة : «وأنزلنا بالمعصرات » فهذا يقول أنه أراد الرياح ، و «الثجاج » : السريع الاندفاع كما يندفع الدم عن عروق الذبيحة ، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم وقد قيل له : ما أفضل الحج ؟ قال : «العج والثج »{[11567]} أراد التضرع إلى الله بالدعاء الجهير وذبح الهدي .


[11565]:هذا جزء من بيت قاله حسان في قصيدته التي مطلعها: (أسألت رسم الدار أم لم تسأل) وهو في الديوان وفي اللسان، وقد روي بروايتين : الأولى: كلتاهما حلب العصير فعاطني بزجاجة أرخاهما للمفصل والثانية: (كلتاهما عرق الزجاجة فاسقني... البيت)، والعصير والعصارة: ما تحلب منه الشيء إذا عصرته، والمفصل –بفتح الميم وكسر الصاد-: اللسان، ويروى المفصل –بكسر الميم وفتح الصاد، راجع اللسان والصحاح، والضمير في (كلتاهما) يعود على نوعين من الخمر ذكرهما في البيت السابق، واحدة ممزوجة بالماء لا يريدها، والثانية خالصة صافية وهي التي يريدها، قال: عن التي ناولتني فرددتها قتلت قتلت، فهاتها لم تقتل
[11566]:من الآية 49 من سورة يوسف.
[11567]:العج هو رفع الصوت بالتلبية، والثج هو إراقة الدماء وذبح الهدايا.
 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{وَأَنزَلۡنَا مِنَ ٱلۡمُعۡصِرَٰتِ مَآءٗ ثَجَّاجٗا} (14)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

ثم ذكر نعمه فقال: {وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجا} يعني مطرا كثيرا منصبا يتبع بعضه بعضا، وذلك أن الله عز وجل يرسل الرياح فتأخذ الماء من سماء الدنيا من بحر الأرزاق، ولا تقوم الساعة ما دام به قطرة ماء، فذلك قوله: {وفي السماء رزقكم وما توعدون} [الذاريات:22] قال تجيء الريح فتثير سحابا فتلحقه، ثم تمطر وتخرج الريح والمطر جميعا من خلل السحاب...

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

اختلف أهل التأويل في المعنيّ بالمعصِرات؛

فقال بعضهم: عُنِي بها الرياح التي تعصر في هبوبها...

وقال آخرون: بل هي السحاب التي تتحلب بالمطر ولمّا تمطر، كالمرأة المعصر التي قد دنا أوان حيضها ولم تحض...

وقال آخرون: بل هي السماء...

وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله أخبر أنه أنزل من المعصِرات، وهي التي قد تحلبت بالماء من السحاب ماء. وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب، لأن القول في ذلك على أحد الأقوال الثلاثة التي ذكرت، والرياح لا ماء فيها، فينزل منها، وإنما ينزل بها، وكان يصحّ أن تكون الرياح، ولو كانت القراءة: «وَأنْزَلْنا بالمُعْصِرَاتِ» فلما كانت القراءة:"منَ المُعْصِرَاتِ "علم أن المعنيّ بذلك ما وصفت...

وأما قوله: "مَاءً ثَجّاجا" يقول: ماء منصبا يتبع بعضه بعضا، كثجّ دماء البدن، وذلك سفكها...

وقال بعضهم: عُنِي بالثجّاج: الكثير...ولا يُعرف في كلام العرب من صفة الكثرة الثجّ، وإنما الثجّ: الصبّ المتتابع...

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

وقال الزجاج: المعصر، هو الذي قد أتى وقت إرسال القطر منه... ثم في إنزال الماء من المعصرات تذكير النعم والقدرة والحكمة، وكل وجه من هذه الأوجه الثلاثة يوجب القول بالبعث. فأما وجه تذكير النعم، وهو أن القطر ينزل من السماء متتابعا، ثم الله تعالى بلطفه، يمنع اتصال بعض ببعض والتصاقه، ويرسل كل قطرة إلى الأرض بحيالها، وينزل بعضها على إثر بعض، لينتفع به. ولو التصق بعضها، واتصل لم يقم لها شيء، وكانت تصير سببا للتعذيب والإهلاك. فبفضله ورحمته أنزلها متتابعة لينتفع بها الخلق، ويتمتعوا بها...

وفيه أن تدبير السماء والأرض والهوي يرجع إلى الواحد القهار؛ إذ لا يتهيأ لأحد أن يمنع القطر المرسل من السماء عن الوصول إلى الموضع الذي أمر أن ينتهي إليه. والثجاج القطر المتتابع بعضه على إثر بعض، والثلج الصب والإراقة...

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

المعصرات: السحائب إذا أعصرت، أي: شارفت أن تعصرها الرياح فتمطر، كقولك: أجز الزرع، إذا حان له أن يجز. ومنه: أعصرت الجارية إذا دنت أن تحيض. وقرأ عكرمة: «بالمعصرات»، وفيه وجهان: أن تراد الرياح التي حان لها أن تعصر السحاب، وأن تراد السحائب؛ لأنه إذا كان الإنزال منها فهو بها، كما تقول: أعطى من يده درهما، وأعطى بيده، وعن مجاهد: المعصرات الرياح ذوات الأعاصير. وعن الحسن وقتادة: هي السموات. وتأويله: أن الماء ينزل من السماء إلى السحاب، فكأنّ السموات يعصرن، أي: يحملن على العصر ويمكنّ منه.

فإن قلت: فما وجه من قرأ. {مِنَ المعصرات} وفسرها بالرياح ذوات الأعاصير، والمطر لا ينزل من الرياح؟ قلت: الرياح هي التي تنشئ السحاب وتدرّ أخلافه فصحّ أن تجعل مبدأ للإنزال؛ وقد جاء: أنّ الله تعالى يبعث الرياح فتحمل الماء من السماء إلى السحاب، فإن صحّ ذلك فالإنزال منها ظاهر،

فإن قلت: ذكر ابن كيسان أنه جعل المعصرات بمعنى المغيثات، والعاصر هو المغيث لا المعصر. يقال: عصره فاعتصر. قلت: وجهه أن يريد اللاتي أعصرن، أي حان لها أن تعصر، أي: تغيث {ثَجَّاجاً} منصباً بكثرة يقال: ثجه وثج نفسه وفي الحديث: "أفضل الحج: العجّ والثجّ " أي رفع الصوت بالتلبية، وصب دماء الهدي. وكان ابن عباس مثجاً يسيل غرباً، يعني أنه يثج الكلام ثجا في خطبته. وقرأ الأعرج: «ثجاجاً» ومثاجج الماء: مصابه، والماء ينثجج في الوادي.

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

ولما ذكر ما يمحق الرطوبة بحرارته، أتبعه ما يطفئ الحرارة برطوبته وبرودته فينشأ عنه المأكل والمشرب، لتي بها تمام الحياة ويكون تولدها من الظرف بالمهاد والسقف، وجعل ذلك أشبه شيء بما يتولد بين الزوجين من الأولاد، فالسماء كالزوج والأرض كالمرأة، والماء كالمني، والنبات من النجم والشجر كالأولاد فقال: {وأنزلنا} أي مما يعجز غيرنا {من المعصرات} أي السحائب التي أثقلت بالماء فشارفت أن يعصرها الرياح فتمطر كما حصد الزرع -إذا حان له أن يحصد، قال الفراء: المعصر، السحابة التي تتحلى بالمطر ولا تمطر كالمرأة المعصرة وهي التي دنا حيضها ولم تحض...