اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَأَنزَلۡنَا مِنَ ٱلۡمُعۡصِرَٰتِ مَآءٗ ثَجَّاجٗا} (14)

قوله : { وَأَنزَلْنَا مِنَ المعصرات } . يجوز في «من » أن تكون على بابها من ابتداءِ الغاية ، وأن تكون للسببية ، وتدل على قراءة عبد الله{[59115]} بن زيد وعكرمة وقتادة : «بالمعصرات » بالباء بدل «من » ، وهذا على الخلاف في «المعصرات » ما المراد بها ، فعن ابن عباس : أنها السَّحاب ، وهو قول سفيان والربيع وأبي العالية والضحاك ، أي : السحاب التي تنعصر بالماء ، ولم تمطر بعد كالمرأة المُعْصِر التي قد دَنَا حيْضُهَا ولمْ تَحِضْ ، يقال : أعْصرتِ السَّحابُ ، أي : جاء وقت أن يعصرها الرياح فتمطر ، كقولك : أجز الزرع ، إذا جاز له أن يجز ؛ وأنشد ابن قتيبة أبي النَّجْم : [ الرجز ]

5070- تَمْشِي الهُوَيْنَى مَائِلاً خِمارُهَا *** قَدْ أعْصَرتْ وقَدْ دَنَا إعْصَارُهَا{[59116]}

ولولا تأويل «أعْصرَتْ » بذلك لكان ينبغي أن تكون «المُعصَرات » - بفتح الصَّاد- اسم مفعول ؛ لأن الرياح تعصرها .

وقال الزمخشري : وقرأ عكرمة : «بالمعصرات » .

وفيه وجهان :

أحدهما : أن تراد الرياح التي حان لها أن تعصر السحاب ، وأن تراد السحائب ؛ لأنه إذا كان الإنزال منها ، فهو بها كما تقول : أعطى من يده درهماً ، وأعطى بيده .

وعن ابن عباس ومجاهد : «المعصرات » الرياح ذوات الأعاصيرِ كأنها تعصر السحاب .

وعن الحسن وقتادة : هي السماوات وتأويله : أن الماء ينزل من السماء إلى السَّحاب ، وكأنَّ السماوات يعصرن ، أي : يحملن على العصر ، ويمكن منه .

فإن قلت : فما وجه من قرأ «من المعصراتِ » وفسرها بالرياح ذوات الأعاصير ، والمطرُ لا ينزل الرياح ؟ .

قلت : الرياح هي التي تُنشِئُ السَّحاب ، وتدرُّ أخلافه ، فصحَّ أن تجعل مبدأ للإنزال ، وقد جاء : إنَّ الله تبارك وتعالى يَبعثُ الرِّياح فَتَحْمِلُ المَاءَ من السَّماءِ إلى السَّحابِ .

فإن صحَّ ذلك فالإنزال منها ظاهر .

فإن قلت : ذكر ابن كيسان أنه جعل «المعصرات » بمعنى المُغيثَات ، والعاصر المغيث لا المعصر ، يقال : عصره فاعتصر .

قلت : وجهه أن يريد اللاتي أعصرت ، أي : حان لها أن تعصر ، أي : تغيث .

يعني أن «عصر » بمعنى الإغاثة : ثلاثي ، فكيف قال هنا : «معصرات » بهذا المعنى وهو من الرباعي ؟ .

فأجابه عنه بما تقدم : يعني : أن الهمزة بمعنى الدخول في الشيء .

قال القرطبي{[59117]} : «ويجوز أن تكون الأقوال واحدة ، ويكون المعنى : وأنزلنا من ذوات الرياح المعصرات { مَآءً ثَجَّاجاً } ، وأصح الأقوال أن المعصرات : السحاب ، كذا المعروف أن الغيث منها ، ولو كان «بالمعصرات » لكان الريح أولى » .

وفي «الصِّحاح »{[59118]} : والمعصرات : السحائب تعصر بالمطر ، وأعصر القوم أي : مطروا ، ومنه قراءة بعضهم : { وفيه تُعْصَرُون } [ يوسف : 49 ] ، والمعصر : الجارية التي قربتْ سنَّ البلوغ ، والمعصر : السحابة التي حان لها أن تمطر ، فقد أعصرت ، ومنه «العَصَرُ » - بالتحريك - للملجأ الذي يلجأ إليه ، والعصرُ - بالضم - أيضاً : الملجأ ، وأنشد أبو زيد : [ الخفيف ]

5071- صَادِياً يَسْتَغيثُ غَيْرَ مُغاثٍ *** ولقَدْ كَانَ عُصْرَةَ المَنْجُودِ{[59119]}

قوله : { مَآءً ثَجَّاجاً } : الثَّجُّ : الانصبابُ بكثرةٍ وبشدةٍ .

وفي الحديث : «أحَبُّ العملِ إلى اللهِ العَجُّ والثَّجُّ »{[59120]} .

فالعَجُّ : رفع الصوت بالتلبية .

والثَّجُّ : إراقة دماءِ حجج الهدي ، يقال : ثجَّ الماء بنفسه ، أي : انصبَّ ، وثَجَجْتُه أنا : أي : صَبَبْتُه ثجَّا وثُجُوجاً ، فيكون لازماً ومتعدياً ؛ وقال الشاعر : [ الطويل ]

5072- إذَا رَجَفَتْ فِيهَا رَحا مُرْجَحِنَّةٌ *** تَبَعَّقَ ثَجَّاجاً غَزِيرَ الحَوافِلِ{[59121]}

وقرأ الأعمش{[59122]} : «ثَجَّاحاً » - بالحاء المهملة - أخيراً .

قال الزمخشري : «ومثاجح الماء : مصابُّه ، والماء يثجح في الوادي » .

وكان ابن عبَّاس مثجًّا ، يعني يثج الكلام ثجًّا في خُطبته .


[59115]:ينظر: الكشاف 4/686، والمحرر الوجيز 5/424، والبحر المحيط 8/404.
[59116]:يروى: "ساقطا خمارها" مكان "مائلا خمارها". وقد نسب البيت إلى منظور بن مرثد الأسدي. ينظر ديوان الحماسة للمرزوقي 3/172، وسمط اللآلىء 2/684، واللسان (عصر)، والدر المصون 6/462، والقرطبي 19/113.
[59117]:ينظر: الجامع لأحكام القرآن 19/113.
[59118]:ينظر: الصحاح 2/750.
[59119]:تقدم.
[59120]:تقدم.
[59121]:ينظر اللسان (وجف)، (رجحن)، و(وحول)، والبحر 8/402، والدر المصون 6/463.
[59122]:وقرأ بها الأعرج ينظر: البحر المحيط 8/404، والكشاف 4/676، والدر المصون 6/463.