قوله : { وَأَنزَلْنَا مِنَ المعصرات } . يجوز في «من » أن تكون على بابها من ابتداءِ الغاية ، وأن تكون للسببية ، وتدل على قراءة عبد الله{[59115]} بن زيد وعكرمة وقتادة : «بالمعصرات » بالباء بدل «من » ، وهذا على الخلاف في «المعصرات » ما المراد بها ، فعن ابن عباس : أنها السَّحاب ، وهو قول سفيان والربيع وأبي العالية والضحاك ، أي : السحاب التي تنعصر بالماء ، ولم تمطر بعد كالمرأة المُعْصِر التي قد دَنَا حيْضُهَا ولمْ تَحِضْ ، يقال : أعْصرتِ السَّحابُ ، أي : جاء وقت أن يعصرها الرياح فتمطر ، كقولك : أجز الزرع ، إذا جاز له أن يجز ؛ وأنشد ابن قتيبة أبي النَّجْم : [ الرجز ]
5070- تَمْشِي الهُوَيْنَى مَائِلاً خِمارُهَا *** قَدْ أعْصَرتْ وقَدْ دَنَا إعْصَارُهَا{[59116]}
ولولا تأويل «أعْصرَتْ » بذلك لكان ينبغي أن تكون «المُعصَرات » - بفتح الصَّاد- اسم مفعول ؛ لأن الرياح تعصرها .
وقال الزمخشري : وقرأ عكرمة : «بالمعصرات » .
أحدهما : أن تراد الرياح التي حان لها أن تعصر السحاب ، وأن تراد السحائب ؛ لأنه إذا كان الإنزال منها ، فهو بها كما تقول : أعطى من يده درهماً ، وأعطى بيده .
وعن ابن عباس ومجاهد : «المعصرات » الرياح ذوات الأعاصيرِ كأنها تعصر السحاب .
وعن الحسن وقتادة : هي السماوات وتأويله : أن الماء ينزل من السماء إلى السَّحاب ، وكأنَّ السماوات يعصرن ، أي : يحملن على العصر ، ويمكن منه .
فإن قلت : فما وجه من قرأ «من المعصراتِ » وفسرها بالرياح ذوات الأعاصير ، والمطرُ لا ينزل الرياح ؟ .
قلت : الرياح هي التي تُنشِئُ السَّحاب ، وتدرُّ أخلافه ، فصحَّ أن تجعل مبدأ للإنزال ، وقد جاء : إنَّ الله تبارك وتعالى يَبعثُ الرِّياح فَتَحْمِلُ المَاءَ من السَّماءِ إلى السَّحابِ .
فإن صحَّ ذلك فالإنزال منها ظاهر .
فإن قلت : ذكر ابن كيسان أنه جعل «المعصرات » بمعنى المُغيثَات ، والعاصر المغيث لا المعصر ، يقال : عصره فاعتصر .
قلت : وجهه أن يريد اللاتي أعصرت ، أي : حان لها أن تعصر ، أي : تغيث .
يعني أن «عصر » بمعنى الإغاثة : ثلاثي ، فكيف قال هنا : «معصرات » بهذا المعنى وهو من الرباعي ؟ .
فأجابه عنه بما تقدم : يعني : أن الهمزة بمعنى الدخول في الشيء .
قال القرطبي{[59117]} : «ويجوز أن تكون الأقوال واحدة ، ويكون المعنى : وأنزلنا من ذوات الرياح المعصرات { مَآءً ثَجَّاجاً } ، وأصح الأقوال أن المعصرات : السحاب ، كذا المعروف أن الغيث منها ، ولو كان «بالمعصرات » لكان الريح أولى » .
وفي «الصِّحاح »{[59118]} : والمعصرات : السحائب تعصر بالمطر ، وأعصر القوم أي : مطروا ، ومنه قراءة بعضهم : { وفيه تُعْصَرُون } [ يوسف : 49 ] ، والمعصر : الجارية التي قربتْ سنَّ البلوغ ، والمعصر : السحابة التي حان لها أن تمطر ، فقد أعصرت ، ومنه «العَصَرُ » - بالتحريك - للملجأ الذي يلجأ إليه ، والعصرُ - بالضم - أيضاً : الملجأ ، وأنشد أبو زيد : [ الخفيف ]
5071- صَادِياً يَسْتَغيثُ غَيْرَ مُغاثٍ *** ولقَدْ كَانَ عُصْرَةَ المَنْجُودِ{[59119]}
قوله : { مَآءً ثَجَّاجاً } : الثَّجُّ : الانصبابُ بكثرةٍ وبشدةٍ .
وفي الحديث : «أحَبُّ العملِ إلى اللهِ العَجُّ والثَّجُّ »{[59120]} .
فالعَجُّ : رفع الصوت بالتلبية .
والثَّجُّ : إراقة دماءِ حجج الهدي ، يقال : ثجَّ الماء بنفسه ، أي : انصبَّ ، وثَجَجْتُه أنا : أي : صَبَبْتُه ثجَّا وثُجُوجاً ، فيكون لازماً ومتعدياً ؛ وقال الشاعر : [ الطويل ]
5072- إذَا رَجَفَتْ فِيهَا رَحا مُرْجَحِنَّةٌ *** تَبَعَّقَ ثَجَّاجاً غَزِيرَ الحَوافِلِ{[59121]}
وقرأ الأعمش{[59122]} : «ثَجَّاحاً » - بالحاء المهملة - أخيراً .
قال الزمخشري : «ومثاجح الماء : مصابُّه ، والماء يثجح في الوادي » .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.