الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{وَأَنزَلۡنَا مِنَ ٱلۡمُعۡصِرَٰتِ مَآءٗ ثَجَّاجٗا} (14)

" وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجا " قال مجاهد وقتادة : والمعصرات الرياح . وقاله ابن عباس : كأنها تعصر السحاب . وعن ابن عباس أيضا : أنها السحاب . وقال سفيان والربيع وأبو العالية والضحاك : أي السحائب التي تنعصر بالماء ولما تمطر بعد ، كالمرأة المعصر التي قددنا حيضها ولم تحض ، قال أبو النجم :

تمشي الهُوَيْنَى مائلا خمارُها *** قد أَعْصَرَتْ أوقد دَنَا إِعْصَارُهَا{[15734]}

وقال آخر :

فكان مِجنى دون من كنت أتقِي *** ثلاثُ شخوصٍ كاعِبَانِ ومُعْصِرُ{[15735]}

وقال آخر{[15736]} :

وذي أُشُرٍ كالأُقْحُوَانِ يزينُهُ *** ذِهابُ الصِّبَا والمُعْصِرَاتُ الرَّوَائِحُ

فالرياح تسمى معصرات ، يقال : أعصرت الريح تعصر إعصارا : إذا أثارت العجاج ، وهي الإعصار ، والسحب أيضا تسمى المعصرات لأنها تمطر . وقال قتادة أيضا : المعصرات السماء . النحاس : هذه الأقوال صحاح ، يقال للرياح التي تأتي بالمطر معصرات ، والرياح تلقح السحاب ، فيكون المطر ، والمطر ينزل من الريح على هذا . ويجوز أن تكون الأقوال واحدة ، ويكون المعنى وأنزلنا من ذوات الرياح المعصرات " ماء ثجاجا " وأصح الأقوال أن المعصرات السحاب . كذا المعروف أن الغيث منها ، ولو كان ( بالمعصرات ) لكان الريح أولى . وفي الصحاح : والمعصرات السحائب تعتصر بالمطر . وأعصر القوم أي أمطروا ، ومنه قرأ بعضهم " وفيه يعصرون " والمعصر : الجارية أول ما أدركت وحاضت ، يقال : قد أعصرت كأنها دخلت عصر شبابها أو بلغته ، قال الراجز{[15737]} :

جاريةٌ بسَفَوَانِ دارها *** تمشِي الهُوَيْنَى ساقطاً خمارُها

قد أَعْصَرَتْ أو قد دنا إعصارُهَا

والجمع : معاصر ، ويقال : هي التي قاربت الحيض ؛ لأن الإعصار في الجارية كالمراهقة في الغلام . سمعته من أبي الغوث الأعرابي . قال غيره : والمعصر السحابة التي حان لها أن تمطر ، يقال أجن الزرع فهو مجن : أي صار إلى أن يجن ، وكذلك السحاب إذا صار إلى أن يمطر فقد أعصر . وقال المبرد : يقال سحاب معصر أي ممسك للماء ، ويعتصر منه شيء بعد شيء ، ومنه العصر بالتحريك للملجأ الذي يلجأ إليه ، والعصرة بالضم أيضا الملجأ . وقد مضى هذا المعنى في سورة " يوسف " {[15738]} والحمد لله . وقال أبو زبيد{[15739]} :

صادياً يستغيثُ غير مُغَاثٍ *** ولقد كان عُصرة المَنْجُودِ

ومنه المعصر للجارية التي قد قربت من البلوغ يقال لها معصر ؛ لأنها تحبس في البيت ، فيكون البيت لها عصرا . وفي قراءة ابن عباس وعكرمة " وأنزلنا بالمعصرات " . والذي في المصاحف " من المعصرات " قال أبي بن كعب والحسن وابن جبير وزيد بن أسلم ومقاتل بن حيان : " من المعصرات " أي من السموات . " ماء ثجاجا " صبابا متتابعا . عن ابن عباس ومجاهد وغيرهما . يقال : ثججت دمه فأنا أثجه ثجا ، وقد ثج الدم يثج ثجوجا ، وكذلك الماء ، فهو لازم ومتعد . والثجاج في الآية المنصب . وقال الزجاج : أي الضباب ، وهو متعد كأنه يثج : نفسه أي يصب . وقال عبيد بن الأبرص{[15740]} :

فَثَجَّ أعلاهُ ثم ارْتَجَّ أسْفَلُه *** وضاق ذَرْعاً بحمل الماء مُنْصاحِ

وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن الحج المبرور فقال : [ العج والثج ] فالعج : رفع الصوت بالتلبية ، والثج : إراقة الدماء وذبح الهدايا . وقال ابن زيد : ثجاجا كثيرا . والمعنى واحد .


[15734]:هذه الزيادة من أبي حيان، دل عليها إجماع نسخ الأصل على ذكر أبي النجم.
[15735]:البيت لعمر بن أبي ربيعة.
[15736]:هو البعيث كما في اللسان، وروايته للبيت: وذي أشر كالأقحوان تشوفه *** ذهاب الصبا والمقصرات الدوالح والدوالح السحائب التي أثقلها الماء: والذهاب بكسر الأمطار الضعيفة.
[15737]:هو منصور بن مرثد الأسدي.
[15738]:راجع جـ 9 ص 205.
[15739]:قاله في رثاء ابن أخته وكان مات عطشا في طريق مكة.
[15740]:البيت وصف المطر، ومنصاح: منشق بالماء. وفي الديوان: فالثج أعلاه.