الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{وَأَنزَلۡنَا مِنَ ٱلۡمُعۡصِرَٰتِ مَآءٗ ثَجَّاجٗا} (14)

قوله : { مِنَ الْمُعْصِرَاتِ } : يجوزُ في " مِنْ " أَنْ تكونَ على بابِها من ابتداءِ الغاية ، وأَنْ تكونَ للسببية . ويَدُلُّ قراءةُ عبدِ الله بنِ يزيد وعكرمة وقتادة " بالمُعْصِرات " بالباءِ بدلَ " مِنْ " وهذا على خلافٍ في " المُعْصِرات " ما المرادُ بها ؟ فقيل : السحاب . يقال : أَعْصَرَتْ السَّحائِبُ ، أي : شارَفَتْ أَنْ تُعْصِرَها الرياحُ فتُمْطِرَ كقولك : " أجَزَّ الزرعُ " إذا حان له أن يُجَزَّ . ومنه " أَعْصَرَتِ الجارِيَةُ " إذا حان لها أَنْ تحيضَ . قاله الزمخشريُّ . وأنشد ابنُ قتيبة لأبي النجم :

تَمْشي الهُوَيْنَى ساقِطاً خِمارُها *** قد أَعْصَرَتْ أو قَدْ دَنَا إعْصارُها

قلت : ولولا تأويلُ " أَعْصَرَتْ " بذلك لكان ينبغي أَنْ تكونَ المُعْصَرات بفتح الصادِ اسمَ مفعول ؛ لأنَّ الرياحَ تُعْصِرُها .

وقال الزمخشري : " وقرأ عكرمةُ " بالمُعْصِرات " . وفيه وجهان : أَنْ يُراد الرياحُ التي حانَ لها أَنْ تُعْصِرَ السحابَ ، وأَنْ يُرادَ السحائبُ ؛ لأنَّه إذا كان الإِنزالُ منها فهو بها/ كما تقول : أَعْطى مِنْ يدِه درهماً ، وأَعْطى بيدِه . وعن مجاهد : المُعْصِرات : الرياحُ ذواتُ الأعاصيرِ . وعن الحسن وقتادة : هي السماواتُ . وتأويلُه : أنَّ الماءَ يَنْزِلَ من السماءِ إلى السحاب فكأنَّ السماواتِ يَعْصِرْنَ ، أي : يَحْمِلْنَ على العَصْر ويُمَكِّنَّ منه . فإنْ قلتَ : فما وَجْهُ مَنْ قرأ " من المُعْصِرات " وفسَّرها بالرياح ذواتِ الأعاصيرِ ، والمطرُ لا يَنْزِلُ من الرياح ؟ قلت : الرياحُ هي التي تُنْشِىءُ السحابَ وتَدِرُّ أخلافَه ، فيَصِحُّ أَنْ تُجْعَلَ مَبْدأً للإِنزال . وقد جاء : إنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ الرياحَ فتحملُ الماءَ من السماء ، فإنْ صَحَّ ذلك فالإِنْزالُ منها ظاهرٌ . فإنْ قلت : ذكر ابن كَيْسانَ : أنه جَعَلَ المُعْصِرات بمعنى المُغِيثات ، والعاصِرُ هو المُغيث لا المُعْصِر . يقال : عَصَرَهُ فاعْتَصَرَ . قلت : وَجْهُه أَنْ يُرادَ : اللاتي أَعْصَرْن ، أي : حان لها أَنْ تُعْصِرَ ، أي : تُغيث " . قلت : يعني أنَّ " عَصَرَ " بمعنى الإِغاثةِ ثلاثيٌّ ، فكيف قيل هنا : مُعْصِرات بهذا المعنى ، وهو من الرُّباعي ؟ فأجاب عنه بما تقدَّم ، يعني أنَّ الهمزةَ بمعنى الدُّخولِ في الشيء .

قوله : { ثَجَّاجاً } الثَّجُّ : الانصِبابُ بكثرةٍ وشِدَّةٍ . وفي الحديث : " أحَبُّ العملِ إلى اللَّهِ العَجُّ والثَّجُّ " فالعَجُّ : رَفْعُ الصوتِ بالتلبيةِ ، والثَّجُّ : إراقةُ دماءِ الهَدْيِ . يقال : ثَجَّ الماءُ بنفسِه ، أي : انصَبَّ وثَجَجْتُه أنا ، أي : صَبَبْتُه ثَجّاً وثُجوجاً ، فيكونُ لازماً ومتعدياً . وقال الشاعر :

إذا رَجَفَتْ فيها رَحَىً مُرْجَحِنَّةٌ *** تَبَعَّجَّ ثَجَّاجاً غَزيرَ الحوافِلِ

وقرأ الأعرج " ثجَّاحاً " بالحاءِ المهملةِ أخيراً . وقال الزمخشري : " ومَثاجِحُ الماءِ مَصابُّه ، والماءُ يَنْثَجِحُ في الوادي " .