المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية  
{حُورٞ مَّقۡصُورَٰتٞ فِي ٱلۡخِيَامِ} (72)

وقوله : { مقصورات } أي محجوبات . وكانت العرب تمدح النساء بملازمة البيوت ، ومنه قول الشاعر [ أبو قيس بن الأسلت ] : [ الطويل ]

وتعتل في إتيانهن فتعذر . . . {[10856]}

يصف أن جارتها يزرنها ولا تزورهن . ويروى أن بيت الأعشى قد ذم وهو قوله : [ البسيط ]

كأن مشيتها من بين جارتها . . . مر السحابة لا ريث ولا عجل{[10857]}

فقيل في ذمه : هذه جوالة خراجة ولاجة ، ومن مدح القصر قول كثير : [ الطويل ]

وأنت التي حببت كل قصيرة . . . إليّ ولم تشعر بذاك القصائر

أريد قصيرات الحجال ولم أرد . . . قصار الخطى شر النساء البحاتر{[10858]}

قال الحسن : { مقصورات في الخيام } ليس بطوافات في الطرق ، و { الخيام } : البيوت من الخشب والثمام{[10859]} وسائر الحشيش ، وهي بيوت المرتحلين من العرب ، وخيام الجنة بيوت اللؤلؤ . وقال عمر بن الخطاب : هي در مجوف . ورواه ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وإذا كان بيت المسكين عند العرب من شعر فهو بيت ، ولا يقال له خيمة ، ومن هذا قول جرير : [ الوافر ]

متى كان الخيام بذي طلوح . . . سقيت الغيث أيتها الخيام{[10860]}

ومنه قول امرئ القيس : [ المتقارب ]

أمرخ خيامهم أم عشر ؟{[10861]}

يستفهم هل هم منجدون أم غائرون لأن العشر مما لا ينبت إلا في تهامة ، والمرخ مما لا ينبت إلا في نجد .


[10856]:هذا عجز بيت قاله أبو قيس بن الأسلت الأنصاري،والبيت بتمامه: وتكسل عن جارتها فيزرنها وتغفل عن إتيانها فتُعذر والكسل: التثاقل عن الأمر الذي لا ينبغي أن يتثاقل عنه، وتغفل: تسهو، والشاهد أن الشاعر يمدحها بذلك إذ ملازمة البيت تدل على الصيانة.
[10857]:قال الأعشى هذا البيت من قصيدته المعروفة التي بدأها بالحديث عن هريرة، فقال:"ودع هريرة إن الركب مُرتحل"، وقبله يقول: غراء فرعاء مصقول عوارضها تمشي الهُوينى كما يمشي الوجي الوحل فهو يصفها بأنها بيضاء، طويلة الشعر، لامعة الأسنان، تمشي ببطء كأن مشيتها حين تخرج من بيت جارتها مرور السحابة لا بطء فيها ولا سرعة، فهو يمشي هادئ رزين، ووجه النقد ذكره المؤلف وإن كان فيما قاله مبالغة، فإن كلمات "جوالة...الخ" جاءت في صيغة مبالغة لا تحتملها ألفاظ البيت، ومجرد الزيارة لجارتها لا يعطي هذه الأوصاف. والوجي هو الذي أصابه وجع في باطن رجله.
[10858]:هذا الوصف من كُثير يؤيد المعنى الذي ذكره ابن عطية وهو مدح القصر بمعنى الحَجب في البيت والمنع من الخروج، يقال: امرأة قصيرة وقَصورة بمعنى مقصورة في البيت ممنوعة من الخروج، وفي حديث أسماء الأشهلية:"إنا معشر النساء محصورات مقصورات"، والبيتان في اللسان والتاج، والرواية فيهما:"عنيت قصيرات الحِجال ولم أرد..."، وفي التهذيب:"قصورات الحجال"، وفي رواية الفراء للبيت الأول:"لعمري لقد حبّبت كل قصورة"، والبيتان أيضا في "القرطبي"و"البحر المحيط"، والحجال جمع حجلة وهي بيت يزين بالثياب والأسرة والستور، والبَحاتر جمع بُحترة-بضم الباء- وهي القصيرة المجتمعة الخلق.
[10859]:الثمام: عُشب من الفصيلة النجيلية يرتفع إلى مائة وخمسين سنتميترا، فروعه مزدحمة متجمعة، والنورة منه سنبلة مدلاة، وكانوا يستخدمونه في تغطية البيوت التي يصنعونها من فروع الشجر وأخشابه، قيل: كانوا يتخذون ثلاثة أعواد أو أربعة من الخشب ثم يضعون عليها الثمام.
[10860]:هذا مطلع قصيدة لجرير، والخيمة: بيت من بيوت الأعراب مستدير يبنيه الأعراب من عيدان الشجر، بحيث يقيمون ثلاثة أعواد أو أربعة وينثرون فوقها الثُّمام، ولهذا قال جرير بعد هذا البيت: تنكر من معارفها ومالت دعائمها وقد بلي الثُّمام وهو نبت تظل به الخيام. وذو الطلوح: مكان، يدعو لهذه الخيام إذا كانت في هذا المكان بالري والخير، قال بعض علماء اللغة:"كأنه لم يكن بذي طلوح خيام قط"، وجرير يقول عنها خيام لأنها لم تصنع من شعر، بل أقيمت من خشب وحشيش.
[10861]:هذا صدر بيت قاله امرؤ القيس من قصيدة له يصف فرسه وخروجه إلى الصيد، والبيت بتمامه: أم مرخ خيامهم أم عُشُر أم القلب في إثرهم منحدر؟ والمرخ: شجر قصير ويكثر في نجد، والعُشُر: شجر طويل ويكثر بالغور، والشاعر يستفهم كما قال ابن عطية، والشاهد أن الشاعر تحدث عن الخيمة التي تصنع من أشجار المرخ أو العُشُر ولم تصنع من شعر.