قوله تعالى : { لعلكم تفلحون إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر } ، أما العداوة في الخمر ، فإن الشاربين إذا سكروا عربدوا ، وتشاجروا ، كما فعل الأنصاري الذي شج سعد بن أبي وقاص بلحي الجمل . وأما العداوة في الميسر ، قال قتادة : كان الرجل يقامر على الأهل والمال ، ثم يبقى حزيناً مسلوب الأهل والمال ، مغتاظاً على حرفائه .
قوله تعالى : { ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة } ، وذلك أن من اشتغل بشرب الخمر و القمار ، ألهاه ذلك عن ذكر الله ، وشوش عليه صلاته ، كما فعل بأضياف عبد الرحمن بن عوف . وتقدم رجل ليصلي بهم صلاة المغرب بعدما شربوا فقرأ : ( قل يا أيها الكافرون أعبد ما تعبدون ، بحذف لا .
قوله تعالى : { فهل أنتم منتهون } . أي : انتهوا ، لفظه استفهام ، ومعناه أمر ، كقوله تعالى : { فهل أنتم شاكرون } [ الأنبياء :80 ] .
جملة { إنّما يريد الشيطان } بيان لكونها من عمل الشيطان . ومعنى يريد يحبّ وقد تقدّم بيان كون الإرادة بمعنى المحبّة عند قوله تعالى : { ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يشترون الضلالة ويريدون أن تضلّوا السبيل } في سورة [ النساء : 44 ] .
وتقدّم الكلام على العداوة والبغضاء عند قوله تعالى : { وألقينا بينهم العداوة والبغضاء } في هذه السورة [ 64 ] .
وقوله : { في الخمر والميسر } أي في تعاطيهما ، على متعارف إضافة الأحكام إلى الذوات ، أي بما يحدث في شرب الخمر من إثارة الخصومات والإقدام على الجرائم ، وما يقع في الميسر من التحاسد على القامر ، والغيظ والحسرة للخاسر ، وما ينشأ عن ذلك من التشاتم والسباب والضرب . على أنّ مجرّد حدوث العداوة والبغضاء بين المسلمين مفسدة عظيمة ، لأنّ الله أراد أن يكون المؤمنون إخوة إذ لا يستقيم أمْر أمّة بين أفرادها البغضاء . وفي الحديث : « لا تباغضوا ولا تحاسدوا وكونوا عباد الله إخواناً » .
و ( في ) من قوله { في الخمر والميسر } للسبيبة أو الظرفية المجازية ، أي في مجالس تعاطيهما .
وأمّا الصدّ عن ذكر الله وعن الصلاة فلِما في الخمر من غيبوبَة العقل ، وما في الميسر من استفراغ الوقت في المعاودة لتطلّب الربح .
وهذه أربع علل كلّ واحدة منها تقتضي التحريم ، فلا جرم أن كان اجتماعها مُقتضياً تغليظ التحريم . ويلحق بالخمر كلّ ما اشتمل على صفتها من إلقاء العداوة والبغضاء والصدّ عن ذكر الله وعن الصلاة . ويلحق بالميسر كلّ ما شاركه في إلقاء العداوة والبغضاء والصدّ عن ذكر الله وعن الصلاة ، وذلك أنواع القمار كلّها أمّا ما كان من اللهو بدون قِمار كالشطرنج دون قِمار ، فذلك دون الميسر ، لأنّه يندر أن يصدّ عن ذكر الله وعن الصلاة ، ولأنّه لا يوقع في العداوة والبغضاء غالباً ، فتدخل أحكامه تحت أدلّة أخرى .
والذّكر المقصود في قوله : { عن ذكر الله } يحتمل أنّه من الذكر اللسان فيكون المراد به القرآن وكلام الرسول عليه الصلاة والسلام الذي فيه نفعهم وإرشادهم ، لأنّه يشتمل على بيان أحكام ما يحتاجون إليه فإذا انغمسوا في شرب الخمر وفي التقامر غابوا عن مجالس الرسول وسماعِ خُطبه ، وعن ملاقاة أصحابه الملازمين له فلم يسمعوا الذكر ولا يتلقّوه من أفواه سامعيه فيجهلوا شيئاً كثيراً فيه ما يجب على المكلّف معرفته . فالسيء الذي يصدّ عن هذا هو مفسدة عظيمة يستحقّ أن يحرّم تعاطيه ، ويحتمل أنّ المراد به الذكر القلبي وهو تذكّر ما أمر الله به ونهَى عنه فإنّ ذكر ذلك هو ذكر الله كقول عمر بن الخطاب : أفضلُ من ذكر الله باللسان ذِكرُ الله عند أمره ونهيه . فالشيء الذي يصدّ عن تذكّر أمر الله ونهيه هو ذريعة للوقوع في مخالفة الأمر وفي اقتحام النهي . وليس المقصود بالذكر في هذه الآية ذكر الله باللسان لأنّه ليس شيء منه بواجب عدا ما هو من أركان الصلاة فذلك مستغنى عنه بقوله : { وعن الصلاة } .
وقوله : { فهل أنتم منتهون } الفاء تفريع عن قوله : { إنّما يريد الشيطان } الآية ، فإنّ ما ظهر من مفاسد الخمر والميسر كاف في انتهاء الناس عنهما فلم يبق حاجة لإعادة نهيهم عنهما ، ولكن يستغنى عن ذلك باستفهامهم عن مبلغ أثر هذا البيان في نفوسهم ترفيعاً بهم إلى مقام الفَطن الخبير ، ولو كان بعد هذا البيان كلّه نهاهم عن تعاطيها لكان قد أنزلهم منزلة الغبي ، ففي هذا الاستفهام من بديع لطف الخطاب ما بلغ به حد الإعجاز .
ولذلك اختير الاستفهام ب { هل } التي أصل معناها ( قد ) . وكثر وقوعها في حيّز همزة الاستفهام ، فاستغنوا ب { هل } عن ذكر الهمزة ، فهي لاستفهامٍ مضمَّن تحقيقَ الإسناد المستفهَم عنه وهو { أنتم منتهون } ، دون الهمزة إذ لم يقل : أتنتهون ، بخلاف مقام قوله { وجَعَلنا بعضَكم لبعض فتنة أتصبرون } [ الفرقان : 20 ] . k وجعلت الجملة بعد { هل } اسمية لدلالتها على ثبات الخبر زيادة في تحقيق حصول المستفهم عنه ، فالاستفهام هنا مستعمل في حقيقته ، وأريد معها معناه الكنائي ، وهو التحذير من انتفاء وقوع المستفهم عنه .
ولذلك روي أنّ عمر لمّا سمع الآية قال : « انتهينا انتهينا » . ومن المعلوم للسامعين من أهل البلاغة أنّ الاستفهام في مثل هذا المقام ليس مجرّداً عن الكناية . فما حكي عن عمرو بن معد يكرب من قوله « إلاّ أنّ الله تعالى قال { فهل أنتم منتهون } فقلْنا : لا » إن صحّ عنه ذلك . ولي في صحته شكّ ، فهو خطأ في الفهم أو التأويل . وقد شذّ نفر من السلَف نقلت عنهم أخبار من الاستمرار على شرب الخمر ، لا يُدرى مبلغها من الصحّة . ومحملها ، إنْ صحّت ، علَى أنّهم كانوا يتأوّلون قوله تعالى { فهل أنتم منتهون } على أنّه نهي غير جازم . ولم يَطُل ذلك بينهم .
قيل : إنّ قُدامَة بن مظْعون ، مِمَّن شهد بدراً ، ولاّه عُمر على البحرين ، فشهد عليه أبو هريرة والجارود بأنّه شرب الخمر ، وأنكر الجارود ، وتمّت الشهادة عليه برجل وامرأة . فلمّا أراد عمر إقامة الحدّ عليه قال قدامة : لو شربتُها كما يقولون ما كان لك أن تجلدني . قال عُمر : لِمَ ، قال : لأنّ الله يقول : { ليس على الذين آمنوا وعَملوا الصالحات جُناح فيما طعموا إذا ما اتّقوا وآمنوا وعملوا الصالحات } [ المائدة : 93 ] ، فقال عمر : أخطأت التأويل إنّك إذا اتّقيت الله اجتنبت ما حَرّم عليك » . ويروى أنّ وحشياً كان يشرب الخمر بعد إسلامه ، وأنّ جماعة من المسلمين من أهل الشام شربوا الخمر في زمن عمر ، وتأوّلوا التحريم فتلوا قوله تعالى : { ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا } [ المائدة : 93 ] ، وأنّ عمر استشار عليّاً في شأنهم ، فاتّفقا على أن يستتابوا وإلاّ قُتلوا . وفي صحة هذا نظر أيضاً . وفي كتب الأخبار أنّ عُيينة بنَ حِصن نزل على عمرو بن معد يكرب في محلّة بني زُبيد بالكوفة فقدّم له عَمْرو خَمراً ، فقال عيينةُ : أو ليس قد حرّمها الله . قال عَمْرو : أنتَ أكبَرُ سِنّاً أم أنا ، قال عيينة : أنتَ . قال : أنتَ أقدَمُ إسلاماً أم أنا ، قال : أنتَ . قال : فإنّي قد قرأتُ ما بين الدفتين ، فوالله ما وجدت لها تحريماً إلاّ أنّ الله قال : فهل أنتم منتهون ، فقلنا : لا » . فبات عنده وشربَا وتنادما ، فلمّا أراد عيينة الانصراف قال عيينة بن حصن :
جُزيت أبَا ثَوْر جَزَاء كرامــةٍ *** فنِعْم الفتى المُزْدَار والمُتَضَيِّــف
قَرَيْتَ فأكْرَمتَ القِرى وأفدْتَنَــا *** تَحِيَّةَ عِلْم{[225]} لم تَكن قبلُ تُعـــرف
وقلتَ : حلال أن ندِير مُدامــة *** كَلَوْن انعِقَاقِ البَرْقِ والليلُ مُسـدف
وقَدّمْتَ فيها حُجَّة عربيَّــــة *** تَرُدّ إلى الإنصاف مَن ليس يُنْصِفُ
وأنتَ لنا واللّهِ ذي العرش قُـدوَة *** إذا صدّنا عن شُرْبها المُتكَلِّــفُ
نَقُول : أبُو ثَوْر أحَلّ شَرَابَهَـــا *** وقولُ أبي ثَوْر أسَدّ وأعْـــرف
وحذف متعلّق { منتهون } لظهوره ، إذ التقدير : فهل أنتم منتهون عنهما ، أي عن الخمر والميسر ، لأنّ تفريع هذا الاستفهام عن قوله : { إنّما يريد الشيطان } يعيّن أنّهما المقصود من الانتهاء .
واقتصار الآية على تبيين مفاسد شرب الخمر وتعاطي الميسر دون تبيين ما في عبادة الأنصاب والاستقسام بالأزلام من الفساد ، لأنّ إقلاع المسلمين عنهما قد تقرّر قبل هذه الآية من حين الدخول في الإسلام لأنّهما من مآثر عقائد الشرك ، ولأنّه ليس في النفوس ما يدافع الوازع الشرعي عنهما بخلاف الخمر والميسر فإنّ ما فيهما من اللذات التي تزجي بالنفوس إلى تعاطيهما قد يدافع الوزاع الشرعي ، فلذلك أكّد النهي عنهما أشدّ ممّا أكّد النهي عن الأنصاب والأزلام .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.