لباب التأويل في معاني التنزيل للخازن - الخازن  
{إِنَّمَا يُرِيدُ ٱلشَّيۡطَٰنُ أَن يُوقِعَ بَيۡنَكُمُ ٱلۡعَدَٰوَةَ وَٱلۡبَغۡضَآءَ فِي ٱلۡخَمۡرِ وَٱلۡمَيۡسِرِ وَيَصُدَّكُمۡ عَن ذِكۡرِ ٱللَّهِ وَعَنِ ٱلصَّلَوٰةِۖ فَهَلۡ أَنتُم مُّنتَهُونَ} (91)

قوله تعالى : { إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر } اختلفوا في سبب نزول هذه الآية فروى أبو ميسرة أن عمر بن الخطاب قال : اللهم بيِّن لنا في الخمر والميسر بياناً شافياً فنزلت الآية في سورة البقرة :{ يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير } الآية فدعي عمر فقرئت عليه فقال : اللهم بيِّن لنا في الخمر والميسر بياناً شافياً فنزلت الآية التي في سورة النساء : { يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى } فدعي عمر فقرئت عليه ثم قال : اللهم بين لنا في الخمر والميسر بياناً شافياً فنزلت الآية التي في المائدة { إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر } إلى قوله { فهل أنتم منتهون } فدعي عمر فقرئت عليه فقال انتهينا انتهينا أخرجه الترمذي من طريقين : وقال رواية أبي ميسرة هذه أصح وأخرجه أبو داود والنسائي . وروى مصعب بن سعيد عن أبيه قال : صنع رجل من الأنصار طعاماً فدعانا فشربنا وذلك قبل أن تحرم زاد حتى انتشينا فتفاخرت الأنصار وقريش فقالت الأنصار نحن أفضل منكم فقال سعد بن أبي وقاص : المهاجرون خير منكم فأخذ رجل من الأنصار لحى جمل فضرب به أنف سعد ففزره فأتى سعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره فنزلت هذه الآية : { يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر } إلى قوله { فهل أنتم منتهون } وقال ابن عباس : نزل تحريم الخمر في قبيلتين من قبائل الأنصار شربوا حتى ثملوا وعبث بعضهم ببعض فلما صحوا جعل الرجل يرى الأثر بوجهه ولحيته فيقول فعل بي هذا فلان أخي وكانوا أخوة ليس في قلوبهم ضغائن فأنزل الله تعالى تحريم الخمر في هذه الآية { يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر } إلى قوله { فهل أنتم منتهون } وأما تفسير الآية فقوله تعالى إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر يعني إنما يزين لكم الشيطان شرب الخمر والقمار بالقداح وهو الميسر ويحسن ذلك لكم إرادة أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء بسبب شرب الخمر لأنها تزيل عقل شاربها فيتكلم بالفحش وربما أفضى ذلك إلى المقاتلة وذلك سبب إيقاع العداوة والبغضاء بين شاربيها .

وأما الميسر ، فقال قتادة : كان الرجل في الجاهلية يقامر على أهله وماله فيقمر فيقعد حزيناً سليباً ينظر إلى ماله في يد غيره فيورثه ذلك العداوة والبغضاء فنهى الله عن ذلك وتقدم ما فيه والله أعلم بما يصلح خلقه فظهر بذلك أن الخمر والميسر سببان عظيمان في إيقاع العداوة والبغضاء بين الناس وهذا فيما يتعلق بأمر الدنيا وفيهما مفاسد تتعلق بأمر الدين وهي قوله تعالى : { ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة } لأن شرب الخمر يشغل عن ذكر الله وعن فعل الصلاة وكذلك القمار يشغل صاحبه عن ذكر الله وعن الصلاة .

فإن قلت : لم جمع الخمر والميسر مع الأنصاب والأزلام في الآية الأولى ثم أفرد الخمر والميسر في هذه الآية ؟

قلت : لأن الخطاب مع المؤمنين بدليل قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا والمقصود نهيهم عن شرب الخمر واللعب بالقمار وإنما ضم الأنصاب والأزلام إلى الخمر والميسر لتأكيد تحريم الخمر والميسر فلما كان المقصود من الآية النهي عن شرب الخمر والميسر لا جرم أفردهما بالذكر في آخر الآية والله أعلم .

قوله تعالى : { فهل أنتم منتهون } لفظة استفهام ومعناه الأمر أي انتهوا وهذا من أبلغ ما ينهى به لأنه تعالى ذم الخمر والميسر واظهر قبحهما للمخاطب كأنه قيل قد تدلى عليكم ما فيهما من أنواع الصوارف والموانع فهل أنتم منتهون مع هذه الأمور أم أنتم على ما كنتم عليه كأنكم لم توعَظوا ولم تنزجروا ؟ وفي هذه الآية دليل على تحريم شرب الخمر لأن الله تعالى قرن الخمر والميسر بعبادة الأصنام وعدَّد أنواع الفساد الحاصلة بهما ووعد بالفلاح عند اجتنابهما وقال فهل أنتم منتهون ومعناه الأمر وقد صح من حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " كل شراب أسكر فهو حرام " أخرجاه في الصحيحين وزاد الترمذي وأبو داود : ما أسكر الفرق منه فملء الكف منه حرام . الفرق بالتحريك إناء يسع ستة عشر رطلاً ، عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من شرب الخمر لم تقبل له صلاة أربعين صباحاً فإن تاب تاب الله عليه فإن عاد لن يقبل الله له صلاة أربعين صباحاً فإن تاب تاب الله عليه فإن عاد لن يقبل الله له صلاة أربعين صباحاً فإن تاب تاب الله عليه فإن عاد الرابعة لم يقبل الله له أربعين صباحاً فإن تاب لم يتب الله عليه وسقاه الله من نهر الخبال " قالوا يا أبا عبد الرحمن وما نهر الخبال ؟ قال : صديد أهل النار أخرجه الترمذي . وقال : حديث حسن وأخرجه النسائي وعنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لعن الله الخمر وشاربها وساقيها وبائعها ومبتاعها وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه " أخرجه أبو داود .