تأويلات أهل السنة للماتريدي - الماتريدي  
{إِنَّمَا يُرِيدُ ٱلشَّيۡطَٰنُ أَن يُوقِعَ بَيۡنَكُمُ ٱلۡعَدَٰوَةَ وَٱلۡبَغۡضَآءَ فِي ٱلۡخَمۡرِ وَٱلۡمَيۡسِرِ وَيَصُدَّكُمۡ عَن ذِكۡرِ ٱللَّهِ وَعَنِ ٱلصَّلَوٰةِۖ فَهَلۡ أَنتُم مُّنتَهُونَ} (91)

وقوله تعالى : ( إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ )

هم في الظاهر لم يجتمعوا على العداوة والبغضاء ، بل يكون اجتماعهم على الإلفة والمودة ، على ذلك يجمعهم في الابتداء . لكن لما شربوا ، وأخذهم الشرب ، وقعت[ في الأصل وم : وقع ] بينهم العداوة . فكان قصده[ من م ، في الأصل : تصدقوا ] إلى جمعهم في الابتداء على المحبة والمودة لما ظهر منه في العاقبة في إيقاع العداوة بينهم وتفريق جمعهم . وهو كقوله تعالى : ( يدعوهم إلى عذاب السعير )[ لقمان21 ] . ولو دعاهم إلى عذاب السعير لكانوا لا يجيبونه ، لكن دعاهم إلى العمل الذي يوجب لهم عذاب السعير .

فعلى ذلك هو يدعوهم إلى الاجتماع في الخمر والميسر إلى ما يوجب ، ويوقع[ في الأصل وم : ويقع ] بينهم العداوة والبغضاء . ففيه أن الأعمال تنظر فيها العواقب كما روي [ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله ][ ساقطة من الأصل وم ] : «الأعمال بالخواتيم »[ البخاري : 6607 ] .

وفي الآية دليل تحريم الخمر لأنه قال : ( رجس من عمل الشيطان ) والرجس حرام كقوله تعالى : ( فإنه رجس أو فسقا )[ الأنعام : 145 ] . وكذلك روي عن نبي الله صلى الله عليه وسلم أنه قام ، فخطب الناس ، فقال : «أيها الناس إن الله يعرض على الخمر تعريضا لا أدري لعله سينزل فيها أمر » ثم قال : «يا أهل المدينة قد أنزل تحريم الخمر فمن كتب هذه الآية وعنده منها شيء فلا يشربها ، ولا يبعها ، فسكبوها في طريق المدينة »[ مسلم1578 ] .

وعن عمر رضي الله عنه [ أنه ][ ساقطة من الأصل وم ] قال لما نزل تحريم الخمر : اللهم بين لنا في الخمر بيان شفاء ، فنزلت الآية التي في البقرة ( يسألونك عن الخمر والميسر )[ الآية : 219 ] فقرئت عليه ، فقال عمر رضي الله عنه اللهم بين لنا في الخمر بيان شفاء ، فنزلت الآية التي في النساء ( لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى )[ الآية : 43 ] فكان منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة قال : لا يقرب الصلاة سكران ، فدعي عمر رضي الله عنه /138-ب/ فقرئت عليه ، فقال : اللهم بين لنا في الخمر بيان شفاء ، فنزلت الآية التي في المائدة : ( إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء )[ الآية : 91 ] فدعي عمر رضي الله عنه فقرئت عليه . فلما بلغ : ( فهل أنتم منتهون ) قال انتهينا .

وعن أنس بن مالك رضي الله عنه [ أنه ][ ساقطة من الأصل وم ] قال : كنت ساقي القوم ، ونبيذنا تمر وزبيب وبسر ، خلطناه جميعا ، فبينا نحن كذلك ، والقوم يشربون ، إذ دخل علينا رجل من المسلمين ، فقال : ما تصنعون ؟ والله لقد أنزل تحريم الخمر ، فأهرقنا الباطية ، وكفأنا [ كؤوسنا ][ ساقطة من الأصل وم ] ، ثم خرجنا فوجدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائما على المنبر ، يقرأ هذه الآية ، ويكررها ( إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء ) إلى قوله تعالى : ( فهل أنتم منتهون ) فالخليطان حرام . فأجمع أهل العلم على أن الخمر حرام : قليلها وكثيرها ، وأن عصيرَ العنبِ ، إذا غلي واشتد فصار سكرا ، خمرٌ .

واختلفوا في ما سوى ذلك من الأشربة ؛ فكان أبو حنيفة وأبو يوسف ، رحمهما الله تعالى ، يقولان : ما كان من الأشربة نيئا متخذا من النخلة والعنب فهو حرام كنبيذ البسر والتمر والزبيب ، إذا سكر كثيره ، فهو حرام عندهما . وعلى ذلك جاء الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : «الخمر من هاتين الشجرتين : من النخلة والعنب »[ مسلم1985 ] فلا يحرم ، وإن كان نيئا ، إلا المسكر منه ؛ لأن غيرهما من الأشربة قد يتخذ لا للسكر[ في الأصل وم : لهم ] ؛ وإن كان في مكان ، لا يتخذ إلا للسكر ، فهو مكروه قليله وكثيره كالمتخذ من النخلة والعنب .

وكان يقولان : ما كان من الأنبذة مطبوخا فهو حلال ، وإن قل طبخه ، إلا العصير ، فإنه لا يحل بالطبخ حتى يذهب ثلثاه ، ويبقى ثلثه . وكانا يفرقان بين العصير وغيره ؛ فإن العصير ليس فيه شيء من غيره ، وإن ترك بحاله على ، فأسكر . فإذا طبخ حتى يذهب ثلثه أو نصفه فهو يغلي ، ويسكر ؛ فلم يخرجه الطبخ من حدة الأول إذا كان قبل أن يطبخ ، وهو الآن يسكر بنفسه إذ لم يجعل فيه شيء غيره .

وسائر ما يتخذ منه الأنبذة ، إن بقيت ، لم[ من م ، في الأصل : لهم ] تشتد ، ولم تسكر حتى يلقى عليه الماء ، ويخلط بها غيره ، فحينئذ يسكر ، فهي مثل العصير إذا ذهب ثلثاه ، وبقي ثلثه ، إن بقي دهرا ، لم يسكر حتى يلقى عليه الماء ، فحينئذ يسكر .

فإذا صار العصير في حال ، إن بقي مدة لم يغل بنفسه ، وهو أن يطبخ حتى يذهب ثلثاه ، فقد ذهب سلطانه .

وروي عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن أبا عبيدة ومعاذ بن جبل وأبا طلحة رضي الله عنهما كانوا يشربون من الطلاء ما ذهب ثلثاه ، وبقي ثلثه ، وقد وصفنا فرق أبي حنيفة وأبي يوسف ، رحمهما الله ، بين المطبوخ وبين المثلث والمنصف من العصير .

وأما فرقهم بين المطبوخ ما يتخذ من النخلة والعنب والنيء منه فهو الخمر التي لا خلاف في تحريمها في العصير التي يصير خمرا . فكل ما كان نيئا من الشجرتين اللتين سماهما النبي صلى الله عليه وسلم فهو حرام إذا أسكر . فإذا كان مطبوخا ، فقد عمل فيه ، خرج من حد الخمر .

فإن قيل : يجب أن يقاس ذلك على النيء لأنه يسكر ، وفيه صفات الخمر قيل : الخمر حرمت لعينها لما لا تتخذ إلا للسكر[ في الأصل وم : السكر ] ، ولا يقاس عليها غيرها . وإنما يقاس على ما حرم ، وحل لعلة دون ما حرم بعينه . وأما غيره من الأنبذة فإنما يحرم منه السكر .

ألا ترى أنه في الخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بعث أبا موسى إلى اليمن قال أبو موسى : إن شرابنا يقال له : البتع ، فما نشرب منه ؟ وما ندع ؟ قال : «اشربوا ولا تسكروا »[ البيهقي في الكبرى8/298 ] .

وعن ابن عباس رضي الله عنه [ أنه ][ ساقطة من الأصل وم ] قال : حرمت الخمر بعينها ، قليلها وكثيرها ، والسكر من كل شراب .

وعن علي رضي الله عنه [ أنه ][ ساقطة من الأصل وم ] قال : فما أسكر من النبيذ ثمان ، وفي الخمر قليلها وكثيرها ثمانون .

فدل قول علي رضي الله عنه في ما أسكر من النبيذ معناه : في السكر ثمانون . وذلك يدل أن قول النبي صلى الله عليه وسلم : «كل مسكر حرام »[ البخاري4344و4345 ] أن السكر منه حرام .

وعن عمر رضي الله عنه أنه أتي بسكران ، قال : يا أمير المؤمنين إنما نشرب في نبيذك الذي في الإداوة ، فقال عمر رضي الله عنه : لست أضربك على النبيذ ، إنما أضربك على السكر . فهذه الأخبار التي ذكرنا دلت على تحريم الخمر بعينها والسكر من كل شراب .

وقوله تعالى : ( ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة ) يدل على تحريمها لأنه إذا سكر صده عن ذكر الله . وعن الصلاة .