اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{إِنَّمَا يُرِيدُ ٱلشَّيۡطَٰنُ أَن يُوقِعَ بَيۡنَكُمُ ٱلۡعَدَٰوَةَ وَٱلۡبَغۡضَآءَ فِي ٱلۡخَمۡرِ وَٱلۡمَيۡسِرِ وَيَصُدَّكُمۡ عَن ذِكۡرِ ٱللَّهِ وَعَنِ ٱلصَّلَوٰةِۖ فَهَلۡ أَنتُم مُّنتَهُونَ} (91)

قوله تعالى : " فِي الخَمْرِ " : فيه أربعة أوجه :

أحدها : أنه متعلق ب " يُوقِعَ " ، أي : يُوقعَ بينكم هذين الشيئينِ في الخمر ، أي : بسبب شرْبها ، و " في " تفيد السببيةَ ؛ كقوله عليه السَّلام : " إنَّ امرأةً دخلتِ النَّارَ في هِرَّةٍ " .

الثاني : أنها متعلِّقة بالبغضاء ؛ لأنه مصدر معرف ب " ألْ " .

الثالث : أنه متعلقٌ ب " العداوة " ، وقال أبو البقاء{[14]} : " ويجوزُ أن تتعلَّق " في " بالعداوة ، أو ب " البَغْضَاء " ، أي : [ أنْ ] تَتَعادَوْا وأنْ تَتَبَاغَضُوا بسبَبِ شُرْبِ الخَمْرِ " ؛ وعلى هذا الذي ذكره : تكونُ المسألةُ من باب التنازعِ ، وهو الوجهُ الرابع ، إلاَّ أنَّ في ذلك إشكالاً ، وهو أنَّ من حقِّ المتنازعين ؛ أن يصلُحَ كلٌّ منهما للعملِ ، وهذا العاملُ الأولُ ، وهو العداوة ، لو سُلِّط على المتنازعِ فيه ، لزم الفصلُ بين المصدر ومعموله بأجنبيٍّ وهو المعطوف ، وقد يقال : إنه في بعضِ صُورِ التنازع يُلتَزَمُ إعمالُ الثاني ، وذلك في فِعْلَي التعجُّبِ ، إذا تنازعا معمولاً فيه ، وقد تقدَّمَ مُشْبَعاً في البقرة .

فصل في مفاسد الأشياء المذكورة في الآية

اعلم أنَّه تعالى لمّا أمَرَ باجْتِنَابِ هذه الأشياءِ ، ذكر فِيهَا نوعَيْنِ من المَفْسَدَة :

الأول : ما يتعلَّقُ بالدُّنْيَا وهُوَ قولُهُ تعالى { إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَآءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ } .

والثاني : المَفْسَدَةُ المُتعلِّقَةُ بالدِّين ، وهو قولُهُ تعالى : { وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ } .

فأمَّا شَرْحُ هذه العداوة [ والبغضاء أولاً في الخَمْر ثمَّ في المَيْسِر ]{[15]} : وأمَّا الخَمْرُ ، فاعْلَم : أنَّ الظَّاهر فيمَنْ يَشْرَبُ الخَمْرَ ، أنَّه يَشْرَبُهَا مع جَمَاعةٍ ، ويكونُ غَرَضُهُ الاسْتِئْنَاس برُفَقَائِهِ ، ويفرحُ بِمُحَادثَتِهمْ ، ويكون بذلك الاجْتِمَاع تأكيدُ المَحَبَّةِ والألْفَةِ ، إلاَّ أنَّ ذلِكَ في الأغْلَبِ ينقلبُ إلى الضِّدِّ ؛ لأنَّ الخَمْرَ يُزيلُ العَقْلَ ، وإذا أزَالَ العَقْلَ اسْتَوْلَتِ الشَّهْوَةُ والغَضَبُ من غير مُدَافَعَةِ العقل ، وعند اسْتِلائِهما تَحْصُلُ المُنازَعَةُ بين أولَئِكَ الأحْبَاب ، وتِلْكَ المُنَازَعَةُ رُبَّما أدَّتْ إلى الضَّرْبِ والقَتْلِ ، والمُشافَهَةِ بالفُحْشِ ، وذلك يُورِثُ أشَدَّ العداوةِ والبَغْضَاء ، كما فعل الأنْصَارِيُّ الذي شَجَّ رأسَ سَعْد بن أبي وقّاص بلحي الجَمَل .

ورُوِيَ أن قَبيلَتَيْنِ من الأنْصَارِ شَرِبُوا الخَمْرَ ، وانْتَشَوْا فَعَبَث بعضُهم على بَعْض ، فلما [ صَحَوْا رأى بعضُهُم في وجْهِ ] بعْضٍ آثَار ما فَعلُوا ، وكانوا إخْوَةً ليْسَ في قُلُوبِهِمْ ضَغَائِن ، فجعل بَعْضُهُم يقُولُ : لو كان أخي بي رَحيماً ما فعل بِي هذا ، فحدثَتْ بَيْنَهُم الضَّغَائِنُ ، فالشَّيطان يُسَوِّلُ أنَّ الاجتماعَ على الشُّرْبِ يوجِبُ تَأكِيدَ الألْفَةِ والمَحَبَّةِ بين الأخوة ، فينْقَلِبُ الأمْرُ ، وتحصُلُ العداوَةُ والبَغْضَاءُ .

وأمَّا المَيْسِرُ ، ففيه بإزَاءِ التَّوْسِعَةِ على المُحْتَاجِينَ من الإجْحَافِ بأرْبَابِ الأمْوالِ ؛ لأنَّ من صارَ مَغْلُوباً في القُمَارِ مَرَّةً ، دَعَاهُ ذلك إلى اللِّجَاحِ فيه ، يَرْجُو بذلِكَ إلى أنْ يَصِيرَ غَالِباً ، وقد يتَّفِقُ أنَّه لا يَحْصُلُ لَهُ ذلك ، إلى أن لا يَبْقَى لَهُ شيءٌ من المَالِ ، وإلى أن يُقَامِرَ على لحْيَتِهِ وأهْلِهِ وَوَلَدِهِ .

قال قتادةُ : كان الرَّجُلُ يُقامِرُ على الأهْلِ والمالِ ، ثم يَبْقَى مَسْلُوبَ الأهْل والمالِ ، ولا شكَّ أنَّه يَبْقَى بعد ذلك فَقِيراً مِسْكِيناً ، ويصيرُ من أعْدَى الأعْدَاءِ لأولئكَ الذين غلبُوه ، فَظَهَر أنَّ الخَمْرَ والمَيْسِر سبَبَانِ عَظِيمَان في إثَارَةِ العَدَاءِ والبغْضَاءِ بين النَّاسِ ، والعداوةُ والبَغضَاءُ تُفْضِي إلى أحْوالٍ مَذْمُومَةٍ من الهرَج والمَرجِ والفِتَنِ ، وذلك مُضَادٌّ لمصالِحِ العِبَادِ .

فلو قِيلَ : لما جمع الخَمْرَ والمَيْسر مع الأنْصَاب والأزلامِ ، ثم أفرَدَهُمَا في آخر الآية .

قلنا : لأنَّ لهذه الآيَةِ خِطَابٌ مع المُؤمنين ، لقوله تعالى : { يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ } والمقصُودُ نَهْيُهُم عن الخَمْرِ والميْسِر ، وإنَّما ضمَّ الأنْصَابَ والأزْلاَم إلى الخَمْرِ والميْسِرِ ، إظهاراً{[16]} أنَّ هذه الأرْبَعَة مُتَقَارِبةٌ في القُبْح والمفْسَدَة ، فلما كان المَقْصُودُ من الآيَةِ النَّهْي عن الخَمْرِ والميْسِر ، لا جَرَم أفَردهُمَا في آخِرِ الآيَةِ بالذِّكْرِ .

قال شهاب الدين{[17]} : ويظهرُ شيءٌ آخرُ ، وهو أنه لم يُفْردِ الخَمْرَ والميْسِرَ بالذِّكْر [ آخراً ] ، بل ذَكَرَ مَعهُمَا شيئاً يَلْزَمُ منه عدمُ الأنصاب والأزلام [ فكأنه ] تكملة ذكر الجميع ، بيانه أنه قال : " في الخَمْرِ والميسِرِ ويَصُدُّكُمْ عنْ ذِكْرِ الله " بعبادة الأنْصَاب أو بالذبحِ عليها للأصنام على ما علم تفسيره أوَّلَ السُّورة ، و " عن الصلاةِ " باشتغالِكم بالأزْلام ، وقد تقدَّم فَذِكْرُ الله والصَّلاة مُنَبِّهَانِ على الأنْصَاب والأزلام .

وأمَّا النَّوع الثَّانِي من المفاسِد الموجُودة في الخَمْرِ والميْسِر : المفَاسِدُ المتعلِّقةُ بالدِّينِ ، وهو قوله تعالى : { وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ } ، أمَّا كَوْنُ شُرْبِ الخَمْرِ يَمْنَعُ عن ذِكْرِ اللَّه وعن الصَّلاة ، فظاهرٌ ؛ لأنَّ شُرْبَ الخَمْرِ يُورِثُ الطَّربَ واللَّذَّة الجُسْمَانيَّة ، والنَّفسُ إذا اسْتَغْرَقَت في اللَّذَّات الجُسْمانِيَّة ، غَفلَتْ عن ذِكْرِ اللَّه وعن الصَّلاة ، وأمَّا كونُ الميْسِر مانِعاً عن ذكر اللَّه وعن الصلاة ، إنْ كانَ غَالِباً صارَ استغراقُهُ في لذَّةِ الغلبَةِ من أنْ يَخْطُر بِبَالِه شيءٌ سِوَاه ، وإن صَارَ مَغْلُوباً صار شِدَّة اهتمامِه بأنْ يحْتَال بحِيلَةٍ ، حتَّى يَصِيرَ غَالِباً مَانِعاً من أنْ يَخْطُرَ بِبَالِهِ شَيءٌ سواه ، ولا شكَّ أنْ هذه الحالةَ مما يَصُدُّ عَنْ ذِكرِ اللَّهِ وعن الصَّلاة ، ولمَّا بيَّن تعالى اشْتِمَال شُرْبِ الخَمْرِ ، واللَّعِب بالميْسِر على هذه المفاسِدِ العَظِيمَةِ في الدِّينِ ، قال تعالى { فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ } .

فصل

قال القُرْطُبِي{[18]} : فَهِمَ الجُمْهُورِ من تَحْرِيم الخَمْرِ ، وإطلاقِ الرِّجْس عليها ، والأمْر باجْتِنَابِهَا ، الحكْم بِنَجَاسَتِهَا ، وخَالَفَهُمْ في ذلك رَبيعَةُ ، واللَّيْثُ بنُ سَعْد ، والمُزَنِيُّ ، وبَعْضُ المُتَأخِّرِين من البَغْدَادِيِّين والقَرَويِّين ، وقالُوا : إنَّها طَاهِرَةٌ وأنَّ المُحرَّمَ إنما هو شُربُهَا ؛ لأنَّ المَيْسِر والأنْصَاب والأزْلامَ ليسوا بِنَجسٍ ، فكذلِكَ الخَمْرُ ، ولجواز سَكْبِهَا [ في ]{[19]} طُرُقِ المدينَةِ ، مع نَهْيِ النبيِّ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - عن التَّخَلِّي في الطريق .

قوله تعالى : { فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ } هذا الاستفهامُ فيه معنى الأمر ، أي : انْتَهُوا .

رُوِيَ أنَّه لمَّا نزلَ قوْلُ اللَّهِ تعالى : { لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى } [ النساء : 43 ] قال عُمَر بنُ الخطَّابِ - رضي الله تعالى عنه - : " اللَّهُمَ بيِّن لَنَا في الخَمْرِ بَيَاناً شافياً " فلما نَزَلَتْ هذه الآيَةُ قال عُمَرُ - رضي الله عنه - : " انْتَهَيْنَا يا رَبِّ ، انْتَهَيْنَا يَا ربِّ " ويدلُّ على أن المراد منه الأمر أيضاً : عطفُ الأمر الصَّريحِ عليه في قوله " وأطيعُوا " ، كأنه قيل : انتهوا عن شُرْبِ الخَمْرِ ، وعن كذا ، وأطِيعُوا ، فمجيءُ هذه الجملةِ الاستفهاميةِ المصدَّرة باسْم مُخْبَرٍ عنه باسمِ فاعلٍ دالٍّ على ثبوتِ النهي واستقراره - أبلغُ من صريح الأمر .

قال ابنُ الخطيب{[20]} : وإنما حَسُنَ هذا المجازُ ؛ لأنَّ الله تعالى ذمَّ هذه الأفعالَ ، وأظْهَرَ قُبْحَهَا للمُخَاطَبِ ، فلما استفهم بَعْدَ ذَلِكَ عن تَرْكِهَا ، لم يَقْدِر المُخَاطبُ إلاَّ على الإقْرَارِ بالتَّرْكِ ، وكأنَّه قِيلَ لَهُ : أتَفْعَلُه وقَدْ ظَهَر من قُبحهِ ما ظَهَر ؛ فصار { فَهَلْ أَنْتُم مُنتَهُونَ } ؛ جَارِياً مُجْرَى تنصِيصِ اللَّهِ تعالى على وُجُوبِ الانْتِهَاءِ ، مَقْرُوناً بإقْرَارِ المُكَلَّفِ بوجوبِ الانْتِهَاءِ .

واعلم : أنَّ هذه الآيةُ دالَّةٌ على وُجوبِ تحريم شُرْبِ الخَمْرِ من وُجُوهٍ :

أحدها : تَصْدِيرُ الجُمْلَة ب " إنَّما " وهي لِلْحَصْرِ ، فَكَأنَّهُ قال : لا رِجْسَ ولا شَيءَ من أعْمَالِ الشَّيْطَانِ إلاَّ هذِهِ الأربَعَةُ .

وثانيها : أنَّهُ تعالى قَرَنَ الخَمْرَ والميْسِر بِعبَادةِ الأوْثَان ، ومنه قولُهُ - عليه الصَّلاة والسَّلام - : " شَارِبُ خَمْرٍ كَعَابدٍ وثَنٍ " .

وثالثها : قال " لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون " ، جعلَ الاجْتِنَاب من الفلاحِ ، وإذا كان الاجْتِناب فَلاَحاً ، كان الارْتِكَابُ خَيْبَةً .

ورابعها : ما تقدَّم من اشْتِمَال الاسْتِفْهَامِ على المَنْفِي .


[14]:قال سيبويه في الكتاب 3/265 وزعم من يوثق به: أنه سمع من العرب من يقول: "ثلاثة أربعه" طرح همزة أربعه على الهاء ففتحها، ولم يحولها تاء لأنه جعلها ساكتة والساكن لا يتغير في الإدراج، تقول: اضرب، ثم تقول: اضرب زيدا.
[15]:ينظر: الكتاب 4/ 166.
[16]:ينظر: الدر المصون 2/35.
[17]:ينظر: السبعة 200، والكشف 1/334، والحجة، 3/6 والبحر المحيط 2/389، والدر المصون 2/5.
[18]:قال سيبويه 3/25 "فإن قلت: ما بالي أقول: واحد اثنان، فأشم الواحد، ولا يكون ذلك في هذه الحروف فلأن الواحد اسم متمكن، وليس كالصوت، وليست هذه الحروف مما يدرج وليس أصلها الإدراج...".
[19]:ينظر: المشكل 1/ 123.
[20]:ينظر: الكتاب 2/107.