معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُضِلَّ قَوۡمَۢا بَعۡدَ إِذۡ هَدَىٰهُمۡ حَتَّىٰ يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَۚ إِنَّ ٱللَّهَ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمٌ} (115)

قوله تعالى : { وما كان الله ليضل قوماً بعد إذ هداهم } الآية . معناه : ما كان الله ليحكم عليكم بالضلالة بترك الأوامر باستغفاركم للمشركين ، { حتى يبين لهم ما يتقون } ، يريد حتى يتقدم إليكم بالنهي ، فإذا تبين ولم تأخذوا به فعند ذلك تستحقون الضلال . قال مجاهد : بيان الله للمؤمنين في ترك الاستغفار للمشركين خاصة ، وبيانه لهم في معصيته وطاعته عامة ، فافعلوا أو ذروا . وقال الضحاك : ما كان الله ليعذب قوما حتى يبين لهم ما يأتون وما يذرون . وقال مقاتل والكلبي : هذا في المنسوخ وذلك أن قوما قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم فأسملوا ، ولم تكن الخمر حراما ، ولا القبلة مصروفة إلى الكعبة ، فرجعوا إلى قومهم وهم على ذلك ثم حرمت الخمر وصرفت القبلة ، ولا علم لهم بذلك ، ثم قدموا بعد ذلك المدينة فوجدوا الخمر قد حرمت والقبلة قد صرفت ، فقالوا : يا رسول الله قد كنت على دين ونحن على غيره فنحن ضلال ؟ فأنزل الله تعالى : { وما كان الله ليضل قوماً بعد إذ هداهم } ، يعني : ما كان الله ليبطل عمل قوم قد علموا بالمنسوخ حتى يتبين لهم الناسخ . { إن الله بكل شيء عليم } .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُضِلَّ قَوۡمَۢا بَعۡدَ إِذۡ هَدَىٰهُمۡ حَتَّىٰ يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَۚ إِنَّ ٱللَّهَ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمٌ} (115)

عطف على جملة : { وما كان استغفار إبراهيم } [ التوبة : 114 ] لاعتذار عن النبي وإبراهيم عليهما الصلاة والسلام في استغفارهما لمن استغفرا لهما من أولي القربى كأبي طالب وآزر ومن الأمة كعبد الله بن أبي بن سلول بأن فعلهما ذلك ما كان إلا رَجاءً منهما هُدى من استغفرا له ، وإعانة له إن كان الله يريده ، فلما تبين لهما الثابتُ على كفره إما بموته عليه أو باليأس من إيمانه تركا الاستغفار له ، وذلك كله بعد أن أبلغا الرسالة ونصحا لمن استغفرا له . ولأجل هذا المعنى مهد الله لهما الاعتذار من قبل بقوله : { من بعدِ ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم } [ التوبة : 113 ] وقولِه : { فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه } [ التوبة : 114 ] . وفي ذلك معذرة للمؤمنين المستغفرين للمشركين من أولي قرابتهم قبل هذا النهي . فهذا من باب { عفا الله عنك لم أذنت لهم } [ التوبة : 43 ] .

وفيه تسجيل أيضاً لكون أولئك المشركين أحرياء بقطع الاستغفار لهم لأن أنبياء الله ما قطعوه عنهم إلا بعد أن أمهلوهم ووعدوهم وبينوا لهم وأعانوهم بالدعاء لهم فما زادهم ذلك إلا طغياناً .

ومعنى : { وَمَا كَانَ الله لِيُضِلَّ قَوْماً } أن ليس من شأنه وعادة جلاله أن يكتب الضلال لقوم بعد إذ هداهم بإرسال الرسل إليهم وإرشادهم إلى الحق حتى يبين لهم الأشياء التي يريد منهم أن يتقوها ، أي يتجنبوها . فهنالك يُبلغ رسله أن أولئك من أهل الضلال حتى يتركوا طلب المغفرة لهم كما قال لنوح عليه السَّلام : { فلا تسألنِ ما ليس لك به علم } [ هود : 46 ] ولا كان من شأنه تعالى أن يكتب الضلال لقوم بعد إذ هداهم للإيمان واهتدوا إليه لعمل عملوه حتى يبين لهم أنه لا يرضى بذلك العمل .

ثم إن لفظ الآية صالح لإفادة معنى أن الله لا يؤاخذ النبي صلى الله عليه وسلم ولا إبراهيم عليه السلام ولا المسلمين باستغفارهم لمن استغفروا له من قبل ورود النهي وظهور دليل اليأس من المغفرة ، لأن الله لا يؤاخذ قوماً هداهم إلى الحق فيكتبهم ضُلالاً بالمعاصي حتى يبين لهم أن ما عملوه معصية ، فموقع هذه الآية بعد جميع الكلام المتقدم صيّرها كلاماً جامعاً تذييلاً .

وجملة { إن الله بكل شيء عليم } تذييل مناسب للجملة السابقة ، ووقوع { إن } في أولها يفيد معنى التفريع . والتعليل مضمون للجملة السابقة ، وهو أن الله لا يضل قوماً بعد أن هداهم حتى يبين لهم الحق .