تأويلات أهل السنة للماتريدي - الماتريدي  
{وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُضِلَّ قَوۡمَۢا بَعۡدَ إِذۡ هَدَىٰهُمۡ حَتَّىٰ يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَۚ إِنَّ ٱللَّهَ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمٌ} (115)

وقوله تعالى : ( وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ ) اختلف أهل التأويل : قال بعضهم : الآية في استغفار المؤمنين للمشركين . وقال بعضهم : الآية في نسخ الأحكام والشرائع التي تحتمل النسخ .

فإن كان في [ الاستغفار للمشركين ][ في الأصل وم : استغفار المشركين ] فإنه ليس هناك نسخ ، لأنه لم يسبق لهم الأمر بالاستغفار ولا الإباحة لهم في ذلك ؛ فإنه قال : ما كان الله ليجعل قوما ضلالا بالاستغفار بعد إذ جعلهم مهتدين حتى يعلموا بالنهي عن ذلك ، والله أعلم .

وهو يحتمل ما ذكرنا من استغفارهم للمنافقين قبل أن يتبين لهم ؛ يقول : لا يجعلهم ضلالا بذلك ( حتى يبين لهم ما يتقون )

وإن كان في نسخ الأحكام فكأنه ، والله أعلم ، قال : ما كان الله ليجعل قوما ضلالا جهالا بفعلهم الذي فعلوا بالأمر ( حتى يبين لهم ما يتقون ) أي حتى يعلموا بالذي يلزمهم الانتهاء عنه ، وهو النسخ .

هذا في الأحكام التي تحتمل النسخ وأما الأحكام التي لا تحتمل النسخ فلا . وأصله : إن كل ما كان في العقل امتناع نسخه فإنه لا يرد فيه النسخ ، وكل ما كان في العقل لا امتناع على نسخه فإنه يجوز أن يرد في النسخ .

ثم المسألة في ما عملوا بالمنسوخ قبل العلم به بالنسخ : ما حال العمل الذي عملوا به ؟ يخرجون ، ويأثمون في عملهم بذلك في حال نسخه ، ويُثابون ، ويؤجرون على ذلك . فإن كان الفعل فعل طاعة وقربة فإنه يثاب في قصده وفعله /223-ب/ ، ولا يخرج منه .

ولكن أن[ في الأصل وم : فان ] كان الفعل ليس بفعل قربة وطاعة ، ولكن فعل حل وحرمة فإنه في فعله قبل بلوغ العلم بنسخه لا يخرج في فعله نحو ما روي أنهم كانوا يشربون الخمر ، ثم آتاهم آت فقال : ألا إن الخمر قد حرمت ، فصبوها ، وكفوا عنها . فهم في شربهم بعد التحريم قبل بلوغ الخبر إليهم لا يخرجون .

وأما الفعل الذي هو فعل قربة وطاعة فإن لهم القربة في فعلهم ، وهو الصلاة ، ونحوه ما روي أن نفرا كانوا يصلون إلى بيت المقدس ، فمر علهيم مار ، فقال : ألا إن القبلة قد حولت ، وهم في الركوع ، إلى الكعبة ، فتحولوا نحوها ، فأخبروا عن ذلك رسول الله ، فلم يأمرهم بالإعادة لأن الفعل قربة وطاعة . فالطاعة والقربة موجودة في فعلهم لأن الأفعال التي فرضت لم تفرض لنفس الأفعال ، إنما فرضت للطاعة والقربة لله فيها . فإنه يؤجر على ذلك ، والله أعلم .

وقوله تعالى : ( إن الله بكل شيء عليم ) بما في مصالح الخلق وما ليس فيه . كان هذا ، والله أعلم ، خرج لإنكار من أنكر النسخ في الشرائع . يقول : إن الله يعلم بما فيه مصالح الخلق ، وأنتم لا تعلمون . وفي الناسخ مصالح لهم ، وأنتم لا تعلمون .

ويؤيد ذلك قوله تعالى : ( إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يُحْيِ وَيُمِيتُ )