التفسير الحديث لدروزة - دروزة  
{وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُضِلَّ قَوۡمَۢا بَعۡدَ إِذۡ هَدَىٰهُمۡ حَتَّىٰ يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَۚ إِنَّ ٱللَّهَ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمٌ} (115)

{ مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ( 113 ) وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ ( 1 ) حَلِيمٌ ( 114 ) وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ إِنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ( 115 ) } ( 113 – 115 ) .

تعليق على الآية :

{ مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ . . . . . . . . . . . . . . . . . . }

والآيتين اللتين بعدها

وما فيها من تلقين وما روي في صددها من روايات

عبارة الآيات واضحة . وقد تضمنت الأولى والثانية منها تنبيها على أنه لا ينبغي للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين أن يستغفروا للمشركين الذين ماتوا على شركهم وغدت الجحيم مصيرا حتميا لهم في الآخرة . وبيانا بأن استغفار إبراهيم لأبيه لا يصح أن يكون مثالا مبررا لذلك ؛ لأنه إنما استغفر له بناء على وعد وعده به ، وقبل أن يتيقن من عدائه لله فلما تيقن من ذلك تبرأ منه ؛ لأنه يخاف الله ولا يفعل ما لا ينبغي . أما الآية الثالثة فقد احتوت تنبيها بأن الله سبحانه اقتضت حكمته أن يبين للناس الذين هداهم بهداه الأعمال التي يجب عليهم أن يتقوها ويتجنبوها ولا يدعهم في عماية وضلال حتى يكونوا على بينة وهو العليم بكل شيء ومقتضيات الأمور .

لقد روى الطبري روايات عديدة في سياق نزول الآية . منها رواية أنها في صدد وعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لعمه بالاستغفار له حينما حضرته الوفاة وأصر على دين آبائه بتحريض من زعماء قريش الكفار . وهذا الخبر ورد في حديث رواه الشيخان عن سعيد بن المسيب عن أبيه قال : ( لما حضرت أبا طالب الوفاة جاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فوجد عنده أبا جهل وعبد الله بن أبي أمية فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : يا عم قل لا إله إلا الله كلمة أشهد لك بها عند الله فقال أبو جهل وعبد الله : يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب . فلم يزل النبي صلى الله عليه وآله وسلم يعرضها عليه ويعيد الاثنان عليه قولهما حتى كان آخر كلامه هو على ملة إبراهيم وأبى أن يقول لا إله إلا الله فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لأستغفرن لك ما لم أنه عنك فأنزل الله : { ما كان للنبي } الآية ) ( 1 ){[1140]} . ومنها أنه لما قدم النبي صلى الله عليه وآله وسلم على مكة من الفتح وقف على قبر أمه حتى سخنت عليه الشمس رجاء أن يؤذن له فيستغفر لها حتى نزلت : { ما كان للنبي } الآية . وروى الطبري صيغة أخرى لهذا الخبر ولا يذكر أن الآية نزلت في هذا الموقف .

وقد روى هذا مسلم وأبو داود والنسائي أيضا عن أبي هريرة بهذه الصيغة : ( زار النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبر أمه فبكى وأبكى من حوله فقال : استأذنت ربي في أن أستغفر لها فلم يؤذن لي واستأذنته في أن أزور قبرها ، فأذن لي فزوروا القبور فإنها تذكر الموت ) ( 2 ){[1141]} . ومن الروايات التي يرويها الطبري أن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قالوا له : يا نبي الله إن من آبائنا من كان يحسن الجوار ويصل الأرحام ويفك العاني ويوفي الذمم أفلا نستغفر لهم ؟ قال : بلى . والله لأستغفرن لأبي كما استغفر إبراهيم لأبيه فأنزل الله الآيتين الأوليين . فيهما نهي وبيان بسبب استغفار إبراهيم لأبيه وكفه عن ذلك . ومنها أن شخصا سمع آخر يستغفر لوالديه ، وهما مشركان فقال له : أيستغفر الرجل لوالديه وهما مشركان ؟ فقال : أو لم يستغفر إبراهيم لأبيه ؟ فأتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فذكر له ذلك فنزلت الآيتان . وروى الطبري أن الذين استغفروا لآبائهم ظنوا أنهم اقترفوا إثما بعد نزول الآيتين فأنزل الله الآية الثالثة .

وروى البغوي رواية أخرى في صدد نزول الآية الثالثة ، وهي أن قوما قدموا على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأسلموا ولم تكن الخمر محرمة ولا القبلة مصروفة إلى الكعبة ، ثم قدموا عليه بعد مدة فوجدوا الخمر محرمة والقبلة مصروفة إلى الكعبة فقال : يا رسول الله قد كنت على دين ونحن على غيره فنحن على ضلال فأنزل الله الآية الثالثة .

ويلحظ أن المناسبة بعيدة بين وفاة أبي طالب والآيات . وكذلك بينها وبين زيارة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لقبر أمه . فضلا عن أن الآيات تشرك المؤمنين مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وليست قاصرة عليه . وهذا ما يجعلنا نتوقف في روايتي أبي طالب وأم النبي صلى الله عليه وآله وسلم ونزول الآيات في صددهما . وحديث أبي طالب الذي يرويه الشيخان عن سعيد بن المسيب : والذي فيه أن الآية نزلت في صدد ذلك هو قول شخص وليس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مباشرة . ولا يكون حجة قاطعة على أن الآية نزلت في صدد ذلك . والحديث الذي يذكر أن الآية نزلت في صدد استغفار النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأمه ليس من الصحاح . والحديث الصحيح الذي يرويه مسلم وأبو داود والنسائي في ذلك ليس فيه أن الآية نزلت في ذلك .

وقد تكون الرواية التي تذكر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لمن سأله عن صواب الاستغفار للآباء ذوي الأعمال الحسنة : بلى . ثم قال : لأستغفرن لأبي أيضا هي أكثر الروايات اتساقا مع نص الآيتين ، وإن لم ترد في الصحاح ؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين معا اشتركوا فيها . وهذا يقال بالنسبة للرواية التي يرويها البغوي كمناسبة لنزول الآية الثالثة ؛ حيث ظن النبي صلى الله عليه وآله وسلم والسائلون أنهم أثموا بالاستغفار لآبائهم بعد نزول الآيتين فنزلت الآية الثالثة بعدهما . والله تعالى أعلم .

ومع أن الآيات الثلاث تبدو كما قلنا فصلا جديدا ، فإن وضعها بعد سلسلة الآيات التي نزلت عقب غزوة تبوك قد يسوغ القول : إن الحوادث التي نبهت ونهت عنها الآيات كانت بعد العودة من هذه الغزوة .

والمتبادر أن وصف إبراهيم عليه السلام بالأواه الحليم هدف إلى التنبيه على أنه لا يمكن أن يفعل شيئا لا يرضاه الله تعالى ؛ لأنه شديد الخوف منه وإن ما كان من وعده لأبيه قبل أن يصبح عداؤه لله يقينيا إنما جاء من رأفته وحمله وإشفاقه ، ولكن ذلك لم يحل دون تبرئه منه حالما تيقن من ذلك العداء ، وفي هذا تلقين جليل مستمر المدى كما هو ظاهر .

ولقد احتوت الآية الثالثة أساسا إيمانيا وتشريعا جليلا . وهو أن الله عز وجل لا يؤاخذ مسلما على عمل لم ينه عنه . وأن كل ما لم يؤمر المسلمون باجتنابه بنص قرآني أو نبوي صحيح مما ليس فيه منكر وإثم وفاحشة بينة هو مباح لهم . وهذا متسق مع ما قرره القرآن في مواضع عديدة وأساليب متنوعة نبهنا عليها في مناسبات سابقة . وهناك حديث يرويه الشيخان والترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يصح أن يورد كضابط عظيم في هذا الصدد ونصه : ( ما نهيتكم عنه فاجتنبوه ، وما أمرتكم به فافعلوا منه ما استطعتم ، فإنما أهلك الذين قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم ) ( 1 ){[1142]} .

وجملة : { ما كان للنبي } قرينة قرآنية أخرى على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد يجتهد في أمر يكون غيره الأولى في غيب الله فينزل قرآن بالعتاب أو التنبيه أو النهي مع بيان ما هو الأولى . وهذا لا يتناقض مع العصمة الواجب الإيمان بها فيه لأن هذه العصمة هي في صدد تبليغ جميع ما أوحاه الله إليه وعدم مخالفته وعدم اقتراف أي إثم ومعصية على ما شرحناه في المناسبات السابقة .


[1140]:التاج ج 4 ص 120.
[1141]:التاج ج 1 ص 345.
[1142]:التاج ج 1 ص 37.