{ فلا اقتحم العقبة } يقول : فهلا أنفق ماله فيما يجوز به العقبة من فك الرقاب وإطعام السغبان ، فيكون خيراً له من إنفاقه على عداوة محمد صلى الله عليه وسلم ، هذا قول ابن زيد وجماعة . وقيل : { فلا اقتحم العقبة } أي لم يقتحمها ولا جاوزها . والاقتحام : الدخول في الأمر الشديد ، وذكر العقبة ها هنا مثل ضربه الله لمجاهدة النفس والهوى والشيطان في أعمال البر ، فجعله كالذي يتكلف صعود العقبة ، يقول : لم يحمل على نفسه المشقة بعتق الرقبة والإطعام ، وهذا معنى قول قتادة . وقيل : إنه شبه ثقل الذنوب على مرتكبها بعقبة ، فإذا أعتق رقبة وأطعم كان كمن اقتحم العقبة وجاوزها . وروي عن ابن عمر : أن هذه العقبة جبل من جهنم . وقال الحسن وقتادة : عقبة شديدة في النار دون الجسر ، فاقتحموها لله تعالى . وقال مجاهد ، والضحاك ، والكلبي : هي صراط يضرب على جهنم كحد السيف ، مسيرة ثلاث آلاف سنة سهلاً وصعوداً وهبوطاً ، وإن بجنبيه كلاليب وخطاطيف كأنها شوك السعدان ، فناج مسلم مخدوش ، ومكردس في النار منكوس ، فمن الناس من يمر كالبرق الخاطف ، ومنهم من يمر كالريح العاصف ، ومنهم من يمر كالفارس ، ومنهم من يمر عليه كالرجل يعدو ، ومنهم من يمر كالرجل يسير ، ومنهم من يزحف زحفاً ، ومنهم الزالون ، ومنهم من يكردس في النار . قال ابن زيد : يقول فهلا سلك الطريق التي فيها النجاة .
يجوز أن يكون { فلا اقتحم العقبة } تفريع إدماج بمناسبة قوله : { وهديناه النجدين } [ البلد : 10 ] أي هديناه الطريقين فلمْ يسلك النجْد الموصِّل إلى الخير .
ويجوز أن يكون تفريعاً على جملة { يقول أهلكت مالاً لبداً } [ البلد : 6 ] وما بينهما اعتراضاً ، وتكون « لا اقتحم العقبة » استفهاماً حذف منه أداته . وهو استفهام إنكار ، والمعنى : أنه يدعي إهلاك مَال كثيرٍ في الفساد من ميسر وخمر ونحو ذلك أفَلا أهلكه في القُرَب والفضائل بفكّ الرقاب وإطعام المساكين في زمن المجاعة فإن الإِنفاق في ذلك لا يخفى على الناس خلافاً لما يدعيه من إنفاقٍ .
وعلى هذا الوجه لا يعرِض الإِشكال بعدم تكرُّر ( لا ) فإن شأن ( لا ) النافية إذا دخلت على فعل المضي ولم تتكرر أن تكون للدّعاء إلاّ إذا تكررت معها مثلُها معطوفةٌ عليها نحو قوله : { فلاَ صَدَّق ولا صلَّى } [ القيامة : 31 ] أو كانت ( لا ) معطوفة على نفي نحو : ما خرجتُ ولا ركبتُ . فهو في حكم تكرير ( لا ) . وقد جاءت هنا نافية في غير دعاء ، ولم تتكرر استغناء عن تكريرها بكون ما بعدها وهو { اقتَحَم العقبة } يتضمن شيئين جاء بيانهما في قوله : { فكُّ رقبة أو إطعام } فكأنه قال : فلا فَكَّ رقبةً ولا أطعم يتيماً أو مسكيناً . ويجوز أن يكون عدم تكرير ( لا ) هنا استغناء بقوله : { ثم كان من الذين آمنوا } فكأنه قيل : فلا اقتحم العقبة ولا آمن . ويظهر أن كل ما يصرف عن التباس الكلام كاففٍ عن تكرير ( لا ) كالاستثناء في قول الحريري في « المقامة الثلاثين » : « لا عقد هذا العقد المبجل في هذا اليوم الأغر المحجّل إلا الذي جال وجاب » الخ وأُطلق { العقبةُ } على العمل الموصل للخير لأن عقبة النجد أعلى موضع فيه . ولكل نجد عقبة ينتهي بها . وفي العقبات تظهر مقدرة السابرة .
والاقتحام : الدخول العسير في مكان أو جماعة كثيرين يقال : اقتحم الصَفَّ ، وهو افتعال للدلالة على التكلف مثل اكتسب ، فشبه تكلف الأعمال الصالحة باقتحام العقبة في شدته على النفس ومشقته قال تعالى : { وما يلقاها إلا الذين صبروا } [ فصلت : 35 ] .
والاقتحام : ترشيح لاستعارة العقبة لِطريق الخير ، وهو مع ذلك استعارة لأن تزاحم الناس إنما يكون في طلب المنافع كما قال :
وأفاد نفي الاقتحام أنه عدل على الاهتداء إيثاراً للعاجل على الآجل ولو عزم وصَبر لاقْتحم العقبة . وقد تتابعت الاستعارات الثلاث : النجدين ، والعقبة ، والاقتحام ، وبُني بعضها على بعض وذلك من أحسن الاستعارة وهي مبنية على تشبيه المعقول بالمحسوس .
والكلام مسوق مساق التوبيخ على عدم اهتداء هؤلاء للأعمال الصالحة مع قيام أسباب الاهتداء من الإِدراك والنطق .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.