اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{فَلَا ٱقۡتَحَمَ ٱلۡعَقَبَةَ} (11)

قوله : { فَلاَ اقتحم العقبة } .

قال الفراءُ والزجاجُ : ذكر «لا » مرة واحدة ، والعرب لا تكاد تفرد : «لا » مع الفعل الماضي ، حتى تعيد «لا » ، كقوله تعالى : { فَلاَ صَدَّقَ وَلاَ صلى } [ القيامة : 31 ] وإنَّما أفردها لدلالة آخر الكلام على معناه ، فيجوز أن يكون قوله تعالى : { ثُمَّ كَانَ مِنَ الذين آمَنُواْ } قائماً مقام التكرير ، فكأنه قال : فلا اقتحم العقبة ولا آمن .

وقال الزمخشريُّ{[60231]} : هي متكررة في المعنى ؛ لأن معنى : «فلا اقتحم العقبة : فلا فكَّ رقبة ، ولا أطعم مسكيناً » . ألا ترى أنه فسر اقتحام العقبة بذلك ؟ .

قال أبو حيَّان{[60232]} : ولا يتم له هذا إلا على قراءة : «فكّ » فعلاً ماضياً .

وقال الزجاج والمبردُ وأبو عليٍّ ، وذكره البخاري عن مجاهد : أن قوله تعالى : { ثُمَّ كَانَ مِنَ الذين آمَنُواْ } يدل على أن «لا » بمعنى : «لم » ، ولا يلزم التكرير مع «لم » ، فإن كررت «لا » كقوله : { فَلاَ صَدَّقَ وَلاَ صلى } [ القيامة : 31 ] ، فهو كقوله تعالى : { لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ } [ الفرقان : 67 ] .

فصل في معنى الآية

المعنى : فهلاَّ أنفق ماله في اقتحام العقبة ، الذي يزعم أنه أنفقه في عداوة محمد صلى الله عليه وسلم هلا أنفقه في اقتحام العقبة ، فيأمن ، والاقتحامُ : الرمي بالنفس في شيء من غير روية ، يقال منه : قحم في الأمر قُحُوماً ، أي : رمى بنفسه فيه من غير روية ، وقَحَّم الفرس فارسه تقحيماً على وجهه : إذا رماه وتقحيم النفس في الشيء : إدخالها فيه من غير روية ، والقُحْمَةُ - بالضم - المهلكة والسَّنة الشديدة ، يقال : أصاب العرب القُحْمَةُ : إذا أصابهم قحط [ فدخلوا الريف ]{[60233]} والقُحَمُ : صعاب الطريق .

وقال عطاء : يريد عقبة جهنم{[60234]} .

وقال مجاهدٌ والضحاك : هي الصراطُ{[60235]} .

قال الواحدي : وهذا فيه نظر ؛ لأن من المعلوم أن هذا الإنسان وغيره ، لم يقتحموا عقبة جهنم ، ولا جاوزوها .

وقال ابن العربي : قال مجاهد : اقتحام العقبة في الدنيا ؛ لأنه فسره بعد ذلك ، بقوله : «فكُّ رقَبةٍ » أو أطعم في يومٍ يتيماً ، أو مسكيناً ، وهذه الأعمال إنما تكون في الدنيا{[60236]} .

وقال الحسنُ ومقاتلٌ : هذا مثلٌ ضربه الله تعالى ، لمجاهدة النفس ، والشيطان في أعمال البر{[60237]} .

قال القفال{[60238]} : قوله تعالى : { فَلاَ اقتحم العقبة } ، معناه : فلا أنفق ماله فيما فيه اقتحام العقبة .

وقيل : معنى قوله تعالى : { فَلاَ اقتحم } دعاء ، أي : فلا نجا ولا سلم ، من لم ينفق ماله في كذا وكذا .

وقيل : شبه عظيم الذنوب ، وثقلها بعقبةٍ ، فإذا أعتق رقبة ، أو عمل صالحاً ، كان مثله مثل من اقتحم العقبة ، وهي الذنوب تضره ، وتؤذيه وتثقله .


[60231]:الكشاف 4/756.
[60232]:البحر المحيط 8/471.
[60233]:سقط من ب.
[60234]:ذكره الرازي في "تفسيره" (31/167).
[60235]:ذكره الماوردي (6/278) والقرطبي (20/45).
[60236]:ينظر المصدر السابق.
[60237]:ذكره الماوردي (6/278) والقرطبي (20/45)
[60238]:ينظر: الفخر الرازي 31/167.