قوله تعالى : { فإن زللتم } . أي ضللتم ، وقيل : ملتم ، يقال : زلت قدمه تزل زلاً وزللاً ، إذا دحضت ، قال ابن عباس : يعني الشرك ، قال قتادة : قد علم الله أنه سيزل زالون من الناس فتقدم في ذلك وأوعد فيه ليكون لديه الحجة عليه .
قوله تعالى : { من بعد ما جاءتكم البينات } . أي الدلالات الواضحات .
قوله تعالى : { فاعلموا أن الله عزيز } . في نقمته .
قوله تعالى : { حكيم } . في أمره ، فالعزيز : هو الغالب الذي لا يفوته شيء ، والحكيم : ذو الإصابة في الأمر .
قوله تعالى : { فإن زللتم من بعد ما جاءكم البينات فاعلموا أن الله عزيز حكيم } تفريع على النهي أي فإن اتبعتم خطوات الشيطان فزللتم أو فإن زللتم فاتبعتم خطوات الشيطان وأراد بالزلل المخالفة للنهي .
وأصل الزلل الزلَق أي اضطراب القدَم وتحركها في الموضع المقصود إثباتها به ، واستعمل الزلل هنا مجازاً في الضُّر الناشىء عن اتباع الشيطان من بناءِ التمثيل على التمثيل ؛ لأنه لما شبهت هيئة من يعمل بوسوسة الشيطان بهيئة الماشي على أثر غيره شبه ما يعتريه من الضر في ذلك المشي بزلل الرجل في المشي في الطريق المزلقة ، وقد استفيد من ذلك أن ما يأمر به الشيطان هو أيضاً بمنزلة الطريق المزلقة على طريق المكنية وقوله : { زللتم } تخييل وهو تمثيلية فهو من التخييل الذي كان مجازاً والمجاز هنا في مركبه .
والبينات : الأدلة والمعجزات ومجيئها ظهورها وبيانها ، لأن المجيء ظهور شخص الجائي بعد غيبته .
وجيء في الشرط بإنْ لندرة حصول هذا الزلل من الذين آمنوا أو لعدم رغبة المتكلم في حصوله إن كان الخطاب لمن آمن بظاهره دون قلبه . وفيه إشارة إلى أن ما خامر نفوسهم من كراهية الصلح هو زلة عظيمة . وقوله : { فاعلموا أن الله عزيز حكيم } جواب الشرط ، و { أن الله عزيز حكيم } ، مفعول { اعلموا } ، والمقصود علم لازمه وهو العقاب .
والعزيز فعيل من عز إذا قوي ولم يُغْلب ، وأصله من العزة وقد مر الكلام عليه عند قوله { أَخذته العزة } [ البقرة : 206 ] وهو ضد ، فكان العلم بأنه تعالى عزيز مستلزماً تحققهم أنه معاقبهم لا يفلتهم ، لأن العزيز لا ينجو من يناوئه .
والحكيم يجوز أن يكون اسم فاعل من حكم أي قوي الحكم ، ويحتمل أنه المحكم للأمور فهو من مجيء فَعِيل بمعنى مُفعل ، ومناسبته هنا أن المتقن للأمور لا يفلت مستحق العقوبة ، فالكلام وعيد وإلاّ فإن الناس كلهم يعلمون أن الله عزيز حكيم .
ولك أن تجعل قوله : { فاعلموا } تنزيلاً لعلمهم منزلة العدم لعدم جريهم على ما يقتضيه من المبادرة إلى الدخول في الدين أو لمخالفة أحكام الدين أو من الامتعاض بالصلح الذي عقده الرسول .
وإنما قال تعالى : { من بعد ما جاءتكم البينات } إعذار لهم ، وفيه إشارة إلى أنهم يجب عليهم تفويض العلم إلى الله الذي أوحى إلى رسوله بإبرام الصلح مع المشركين ، لأنه ما أوحاه الله إلاّ لمصلحة وليس ذلك بوهن للمسلمين ، لأن الله عزيز لا يهن لأحد ، ولأنه حكيم يضع الأمور في مواضعها ، ويختار للمسلمين ما فيه نصر دينه وقد رأيتم البينات الدالةَ على عناية الله برسوله وأنه لا يخزيه ولا يضيع أمره ومن تلك البينات ما شاهدوه من النصر يوم بدر .
وإن كان المراد الدخولَ في الإسلام أو الدوامَ عليه فالمعنيُّ : بـِ ( فإن زللتم ) : الاتصاف بما ينافي الأمر بالدخول في السّلم ، والمراد بالبينات المعجزاتُ الدالة على صدق الرسول ، نقل الفخر عن « تفسير القاضي عبد الجبار » دلت الآية على أن المؤاخذة بالذنب لا تحصل إلاّ بعد البيان وأن المؤاخذة تكون بعد حصول البينات لا بعد حصول اليقين من المكلف ، لأنه غير معذور في عدم حصول اليقين إن كانت الأدلة كافية .
وفي « الكشاف » روي أن قارئاً قرأ هذه الآية فإن الله غفور رحيم فسمعه أعرابي فأنكره وقال لا يقول الحكيم كذا لا يذكر الغفران عند الزلل لأنه إغراء عليه اهـ وفي القرطبي عن « تفسير النقاش » نسبة مثل هذه القصة إلى كعب الأحبار ، وذكر الطيبي عن الأصمعي قال كنت أقرأ : والسارقُ والسارقةُ فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالاً من الله والله غفور رحيم ، وبجنبي أعرابي فقال كلامُ مَنْ هذا ؟ قلت كلامُ الله ، قال : ليس هذا كلامُ الله فانتبهتُ فقرأت { والله عزيز حكيم } [ المائدة : 38 ] فقال أصبتَ هذا كلام الله فقلت أتقرأ القرآن ؟ قال لا قلتُ من أين علمت ؟ قال يا هذا عَزَّ فَحَكَم فقطعَ ولو غَفر ورَحم لَمَا قَطَع .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{فإن زللتم}: ضللتم عن الهدى وفعلتم هذا.
{من بعد ما جاءتكم البينات}: شرائع محمد صلى الله عليه وسلم وأمره، ثم حذرهم عقوبته.
{فاعلموا أن الله عزيز}: في نقمته. {حكيم} حكم عليهم العذاب...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
فإن أخطأتم الحق، فضللتم عنه، وخالفتم الإسلام وشرائعه، من بعدما جاءتكم حججي، وبينات هداي، واتضحت لكم صحة أمر الإسلام بالأدلة التي قطعت عذركم أيها المؤمنون، فاعلموا أن الله ذو عزّه، لا يمنعه من الانتقام منكم مانع، ولا يدفعه عن عقوبتكم على مخالفتكم أمره ومعصيتكم إياه دافع، حكيم فيما يفعل بكم من عقوبته على معصيتكم إياه بعد إقامته الحجة عليكم، وفي غيره من أموره.
وقد قال عدد من أهل التأويل: إن البينات هي محمد صلى الله عليه وسلم والقرآن. وذلك قريب من الذي قلنا في تأويل ذلك، لأن محمدا صلى الله عليه وسلم والقرآن من حجج الله على الذين خوطبوا بهاتين الاَيتين. غير أن الذي قلناه في تأويل ذلك أولى بالحقّ، لأن الله جل ثناؤه، قد احتجّ على من خالف الإسلام من أخبار أهل الكتاب بما عهد إليهم في التوراة والإنجيل وتقدم إليه على ألسن أنبيائهم بالوصاة به، فذلك وغيره من حجج الله تبارك وتعالى عليهم مع ما لزمهم من الحجج بمحمد صلى الله عليه وسلم وبالقرآن فلذلك اخترنا ما اخترنا من التأويل في ذلك.
عن السدي في قوله:"فإنْ زَلَلْتُمْ" يقول: فإن ضللتم... والزلل: الشرك.
"مِنْ بَعْدَ ما جاءَتْكُمْ البَيّناتُ": من بعد ما جاءكم محمد صلى الله عليه وسلم
"مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمْ البَيّناتُ": الإسلام والقرآن.
"فاعْلَمُوا أنّ اللّهَ عَزيزٌ حَكِيمُ": عزيز في نقمته، حكيم في أمره.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
قوله تعالى: {فإن زللتم من بعد ما جاءتكم البينات} أي ملتم، وتركتم من بعد ما ظهر لكم الحق.
{فاعلموا أن الله عزيز حكيم} قيل: {عزيز} أي منتقم بميلكم وترككم الحق بعد الظهور، ويحتمل: {عزيز} أي غني عن طاعتكم له وعبادتكم إياه.
وقيل: {عزيز} أن يُقهَر، أو يُذَل، أو يُغلَب؛ لأن العزيز نقيض الذليل،
وقيل: عزيز: لا يقدر أحد أن يصل إليه... كما يقال: عزيز لا يرام...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
{فإن زللتم}: تنحيتم عن القصد، والشرائع، وتركتم ما أنتم عليه من الدين {من بعد ما جاءتكم البينات فاعلموا أن الله عزيز} في نعمته {حكيم} في أمره، لا تعجزونه، وحكيم فيما شرع لكم من دينه، وفطركم عليه، وفيما يفعل بكم من عقوبة على معاصيكم إياه بعد إقامة الحجة عليكم.
وقيل: زل في الآية: مجاز تشبيها بمن زل عن قصد الطريق، وحقيقته: عصيتم الله فيما أمركم به أو نهاكم عنه.
والأولى أن يكون ذلك حقيقة بالعرف.
فان قيل: سواء زل العباد أو لم يزلوا، وجب أن يعلم أن الله عزيز حكيم فما معنى الشرط؟ قيل، لأن معنى {عزيز} هو القادر الذي لا يجوز عليه المنع من عقابكم {حكيم} في عقوبته إياكم، فكأنه قال: فاعلموا أن العقاب واقع بكم لامحالة.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
الزَّلةُ الواحدةُ بعد كشف البرهان أقبحُ من كثيرٍ منها قبل ذلك، ومَنْ عُرِفَ في الخيانة لا يُعْتَمد عليه في الأمانة. ومحنة الأكابر إذا حلَّت كان فيها استئصالهم بالكلية.
تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :
{العزيز}: الغالب الذي لا يفوته شيء، و {الحكيم}: ذو الإصابة في الأمر...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{فَإِن زَلَلْتُمْ} عن الدخول في السلم {مّن بَعْدِ مَا جَاءتْكُمُ البينات} أي الحجج والشواهد على أنّ ما دعيتم إلى الدخول فيه هو الحق {فاعلموا أَنَّ الله عَزِيزٌ} غالب لا يعجزه الانتقام منكم {حَكِيمٌ} لا ينتقم إلا بحق...
قوله تعالى: {فإن زللتم} يعني إن انحرفتم عن الطريق الذي أمرتم به، وعلى هذا التقدير يدخل في هذا الكبائر والصغائر، فإن الانحراف كما يحصل بالكثير يحصل بالقليل. فتوعد تعالى على كل ذلك زجرا لهم عن الزوال عن المنهاج لكي يتحرز المؤمن عن قليل ذلك وكثيره لأن ما كان من جملة الكبائر فلا شك في وجوب الاحتراز عنه، وما لم يعلم كونه من الكبائر فإنه لا يؤمن كون العقاب مستحقا به وحينئذ يجب الاحتراز عنه.
قوله تعالى: {من بعدما جاءتكم البينات} يتناول جميع الدلائل العقلية والسمعية.
أما الدلائل العقلية فهي الدلائل على الأمور التي تثبت صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم... نحو العلم بحدوث العالم وافتقاره إلى صانع يكون عالما بالمعلومات كلها، قادرا على الممكنات كلها، غنيا عن الحاجات كلها، ومثل العلم بالفرق بين المعجزة والسحر، والعلم بدلالة المعجزة على الصدق فكل ذلك من البينات العقلية.
وأما البينات السمعية فهي البيان الحاصل بالقرآن والبيان الحاصل بالسنة فكل هذه البينات داخلة في الآية من حيث أن عذر المكلف لا يزول عند حصول كل هذه البينات.
قال القاضي: دلت الآية على أن المؤاخذة بالذنب لا تحصل إلا بعد البيان وإزاحة العلة، فإذا علق الوعيد بشرط مجيء البينات وحصولها فبأن لا يجوز أن يحصل الوعيد لمن لا قدرة له على الفعل أصلا أولى، ولأن الدلالة لا ينتفع بها إلا أولوا القدرة، وقد ينتفع بالقدرة مع فقد الدلالة.
وقال أيضا: دلت الآية على أن المعتبر حصول البينات لا حصول اليقين من المكلف، فمن هذا الوجه دلت الآية على أن المتمكن من النظر والاستدلال يلحقه الوعيد كالعارف، فبطل قول من زعم أن لا حجة لله على من يعلم ويعرف. لقائل أن يقول: إن قوله تعالى: {فإن زللتم من بعد ما جاءتكم البينات} إشارة إلى... ذنبهم وجرمهم، فكيف يدل قوله {أن الله عزيز حكيم} على الزجر والتهديد.
الجواب: أن العزيز من لا يمنع عن مراده، وذلك إنما يحصل بكمال القدرة، وقد ثبت أنه سبحانه وتعالى قادر على جميع الممكنات، فكان عزيزا على الإطلاق، فصار تقدير الآية: فإن زللتم من بعد ما جاءتكم البينات، فاعلموا أن الله مقتدر عليكم لا يمنعه مانع عنكم، فلا يفوته ما يريده منكم وهذا نهاية في الوعيد، لأنه يجمع من ضروب الخوف ما لا يجمعه الوعيد بذكر العقاب، وربما قال الوالد لولده: إن عصيتني فأنت عارف بي، وأنت تعلم قدرتي عليك وشدة سطوتي، فيكون هذا الكلام في الزجر أبلغ من ذكر الضرب وغيره،
فإن قيل: أفهذه الآية مشتملة على الوعد كما أنها مشتملة على الوعيد؟ قلنا: نعم من حيث أتبعه بقوله: {حكيم} فإن اللائق بالحكمة أن يميز بين المحسن والمسيء فكما يحسن من الحكيم إيصال العذاب إلى المسيء فكذلك يحسن منه إيصال الثواب إلى المحسن، بل هذا أليق بالحكمة وأقرب للرحمة.
[و] احتج من قال بأنه لا وجوب لشيء قبل الشرع بهذه الآية قال: لأنه تعالى أثبت التهديد والوعيد بشرط مجيء البينات، ولفظ {البينات} لفظ جمع يتناول الكل، فهذا يدل على أن الوعيد مشروط بمجيء كل البينات وقبل الشرع لم تحصل كل البينات، فوجب أن لا يحصل الوعيد، فوجب أن لا يتقرر الوجوب قبل الشرع.
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
{فاعلموا أن الله عزيز حكيم} أي: دوموا على العلم، إن كان الخطاب للمؤمنين، وإن كان للكافرين أو المنافقين فهو أمر لهم بتحصيل العلم بالنظر الصحيح المؤدي إليه.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما أقام سبحانه وتعالى الأدلة على عظمته التي منها الوحدانية وأزال الشبه ومحا الشكوك وذكر بأنواع اللطف والبر إلى أن ختم الآيتين بما ذكر من ولايته وعداوة المضل عن طريقه سبب عن ذلك قوله {فإن زللتم} مشيراً بأداة الشك إلى أنهم صاروا إلى حالة من وضوح الطريق الواسع الأمكن الأمين المستقيم الأسلم يبعد معها كل البعد أن يزلوا عنه ولذلك قال: {من بعد ما جاءتكم البينات} أي بهذا الكتاب الذي لا ريب فيه.
قال الحرالي: بينات التجربة شهوداً ونبأ عما مضى وتحققاً بما وقع، وقال: إن التعبير ب"إن" يشعر بأنهم يستزلون، والتعبير بالماضي إشعار بالرجوع عنه رحمة من الله لهم كرحمته قبل لأبويهم حين أزلهما الشيطان فكما أزل أبويهم في الجنة عن محرم الشجرة أزلهم في الدنيا عن شجرة المحرمات من الدماء والأموال والأعراض...
ولما كان الخوف حاملاً على لزوم طريق السلامة قال: {فاعلموا} فإن العلم أعون شيء على المقاصد {أن الله} الحاوي لصفات الكمال {عزيز} لا يعجزه من زل ولا يفوته من ضل {حكيم} يبرم ما لا يقدر أحد على نقض شيء منه.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{فإن زللتم من بعد ما جاءتكم البينات فاعلموا أن الله عزيز حكيم} أي فإن زللتم وحدتم عن صراط الله وهو السلم إلى خطوات الشيطان وهي طرق الخلاف والافتراق والباطل والشر، من بعد أن بين الله تعالى لكم أن سبيله واحدة وهي السلم، وأن الشيطان لكم عدو مبين، وأمركم أن تتخذوه عدوا وتجتنبوا طرقه وخطواته، ثم فصل لكم من ذلك ما اضطررتم إليه، وأكد النهي عن شر تلك الطرق وأشأمها وهي طرق التفرق والخلاف فاعلموا أن أمامكم أمرا جليلا، وأخذا وبيلا، ذلك أن الله تعالى لعزته لا ينسى من ينسى سننه ويزل عن شريعته، بل يأخذه أخذ عزيز مقتدر، ولحكمته قد وضع تلك السنن في الخليقة، وهدى إليها الناس بما أنزل من الشريعة، ومن ذلك أن جعل لكل ذنب عقوبة، وجعل العقوبة على ذنوب الأمم أثرا من أثارها لازما لها حتما. فكأنه تعالى قال فاعلموا أنه يحل بكم العقاب لأنه عزيز لا يغلب على أمره، وحكيم لا يهمل أمر خلقه، ولكن هذا التعبير أبلغ لأنه بيان للحجة، وتقرير للبرهان بالإشارة إلى مقدماته، اكتفاء به عن ذكر النتيجة وهو من ضروب إيجاز القرآن، التي لم تعهد في كلام إنسان.
قال الأستاذ الإمام: إنه ذكر من صفاته تعالى ما هو دليل العقاب وهو ما لا مطمع في زواله، ولا هزء في الدين أكبر من ظن المغرور أنه ينال جنة عرضها السموات والأرض وفيها من النعيم والرضوان ما لم يخطر على قلب بشر، بغير الأعمال التي أرشدت إليها آيات الله تعالى، مبينة أن العقوبة على تركها من آثار صفاته القديمة التي لا يلحقها تغيير ولا تؤثر فيها الحوادث بتبديل ولا تحويل اه.
ونقول نحن على طريقته إنّ ظنّ المغرورين بأنه يكون لهم السلطان والخلافة في الأرض بمجرد دعوى الإيمان والإسلام، ولو مع بعض الأعمال البدنية من غير إقامة العدل في الناس والعمارة والإصلاح في الأرض، هو من الهزء بآيات الله في كتابه، وآياته في خلقه، فإنها متفقة على أن الأرض يرثها عباد الله الصالحون لعمارتها وإقامة العدل فيها: {وما كان ربك ليهلك القرى} (هود: 117) أي الأمم {بظلم} منهم أي شرك وكفر، أو منه لهم {وأهلها مصلحون} أي والحال أنهم مصلحون في أعمالهم وسياستهم وإنما يهلكها إذا ظلموا وأفسدوا فيها.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ثم يخوفهم عاقبة الزلل بعد البيان: {فإن زللتم من بعد ما جاءتكم البينات فاعلموا أن الله عزيز حكيم}.. وتذكيرهم بأن الله (عزيز) يحمل التلويح بالقوة والقدرة والغلبة، وأنهم يتعرضون لقوة الله حين يخالفون عن توجيهه.. وتذكيرهم بأنه (حكيم).. فيه إيحاء بأن ما اختاره لهم هو الخير، وما نهاهم عنه هو الشر، وأنهم يتعرضون للخسارة حين لا يتبعون أمره ولا ينتهون عما نهاهم عنه.. فالتعقيب بشطريه يحمل معنى التهديد والتحذير في هذا المقام...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وجيء في الشرط ب"إنْ" لندرة حصول هذا الزلل من الذين آمنوا أو لعدم رغبة المتكلم في حصوله إن كان الخطاب لمن آمن بظاهره دون قلبه. وفيه إشارة إلى أن ما خامر نفوسهم من كراهية الصلح هو زلة عظيمة.
وقوله: {فاعلموا أن الله عزيز حكيم} جواب الشرط، و {أن الله عزيز حكيم}، مفعول {اعلموا}، والمقصود علم لازمه وهو العقاب. فالكلام وعيد وإلاّ فإن الناس كلهم يعلمون أن الله عزيز حكيم. ولك أن تجعل قوله: {فاعلموا} تنزيلاً لعلمهم منزلة العدم لعدم جريهم على ما يقتضيه من المبادرة إلى الدخول في الدين أو لمخالفة أحكام الدين أو من الامتعاض بالصلح الذي عقده الرسول.
{من بعد ما جاءتكم البينات} إعذار لهم، وفيه إشارة إلى أنهم يجب عليهم تفويض العلم إلى الله الذي أوحى إلى رسوله بإبرام الصلح مع المشركين، لأنه ما أوحاه الله إلاّ لمصلحة وليس ذلك بوهن للمسلمين، لأن الله عزيز لا يهن لأحد، ولأنه حكيم يضع الأمور في مواضعها، ويختار للمسلمين ما فيه نصر دينه وقد رأيتم البينات الدالةَ على عناية الله برسوله وأنه لا يخزيه ولا يضيع أمره ومن تلك البينات ما شاهدوه من النصر يوم بدر.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
إن حدتم عن طريق الاستقامة والإخلاص والحق من بعد أن علمتموه ببرهانه، فليس ثمة إلا العقاب الرادع بعد الدليل القاطع، واعلموا أن الله عزيز لا يغلب، ولا يهزم من ينصره، ومن عاداه وعادى أولياءه فهو عرضة لنقمته، وهو حكيم يضع الأمور في مواضعها، فلا يجعل المسيء كالمحسن، ولا المصلح كالمفسد، فكان من مقتضى حكمته أن يفرق بين الأخيار والأشرار وأهل الإيمان وأهل الكفر...
{من بعد ما جاءتكم البينات} إنه سبحانه يوضح لنا أنه لا عذر لكم مطلقا في أن تزلوا؛ لأنني بينت لكم كل شيء، ولم أترككم إلى عقولكم، ومن المنطقي أن تستعملوا عقولكم استعمالا صحيحا لتديروا حركة الكون الذي استخلفتكم فيه، ومع ذلك، إن أصابتكم الغفلة فأنا أرسل الرسل. ولذلك قال سبحانه: {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً} (من الآية 15 سورة الإسراء).
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{فَإِن زَلَلْتُمْ مِّن بَعْدِ مَا جَآءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ} فليس الزلل، عند انسجامكم في خطوات الشيطان، ناشئاً من جهل أو عدم وضوح في الرؤية؛ فقد قامت الحجّة عليكم من اللّه في ما أقامه أمامكم من بيّنات ودلائل، بما منحكم من عقول، وبما أرسله إليكم من رسالات. وبذلك كان الخطاب إليهم بأنَّ عليهم مواجهة الحقيقة الحاسمة، وهي {أَنَّ اللّه عَزِيزٌ} لا يستطيعون الانتقاص من عزّته مهما عملوا وانحرفوا، {حَكِيمٌ} لم يترك الأمور لتسير في أجواء العبث والفوضى؛ بل جعل لكلّ شيء ثواباً كان أو عقاباً حدّاً لا يتجاوزه في ما يفعل أو يدع.