اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{فَإِن زَلَلۡتُم مِّنۢ بَعۡدِ مَا جَآءَتۡكُمُ ٱلۡبَيِّنَٰتُ فَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (209)

قوله تعالى : " فَإِنْ زَلَلْتُمْ " الجمهور على " زَلَلْتُمْ " : بفتح العين ، وأبو السَّمَّال{[20]} قرأها بالكسر ، فهما لغتان ؛ كضلَلت ، وضلِلت . و " ما " في " مِنْ بعدِما " مصدريَّةٌ ، و " مِنْ " لابتداء الغاية ، وهي متعلِّقةٌ ب " زَلَلْتُمْ " .

معنى " زَلَلْتُمْ " أي : ضللتم ، وقيل : ملتم ، يقال : زلَّت قدمه تزلُّ زلاًّ وزللاً ، إذا دحضت ، وأصل الزلل في القدم ، واستعماله في الاعتقادات .

فصل

يروى عن ابن عباس : فإن زللتم في تحريم السَّبت ، ولحم الإبل ، { مِّن بَعْدِ مَا جَآءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ } يعني محمَّداً وشرائعه ، { فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } في كلِّ أفعاله ، فعند هذا قالوا : لئن شئت يا رسول الله ، لنتركنَّ كلَّ كتابٍ غير كتابك ، فأنزل الله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ } [ النساء : 136 ] ومن قال : إن الآية الأولى في المنافقين قال في هذه الآية كذلك .

فإن قيل : إنَّ الحكم المشروط إنما يحسن في حقِّ من لا يكون عالماً بعواقب الأمور ، وأجاب قتادة{[21]} عن ذلك فقال : قد علم أنَّهم سيزلون ، ولكنه تعالى قدَّم ذلك ، وأوعد فيه ؛ ليكون له الحجَّة عليهم .

فصل

قوله : { مِّن بَعْدِ مَا جَآءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ } يتناول جميع الدلائل العقليَّة والسمعيَّة .

أمَّا العقليَّة ، فالعلم بحدوث العالم ، وافتقاره إلى صانع يكون عالماً بكلِّ المعلومات ، قادراً على كل الممكنات ، غنيّاً عن كل الحاجات .

وأمَّا السمعيَّة : فهي البيان الحاصل بالقرآن والسُّنَّة .

فصل

قال القرطبيُّ{[22]} : دلت الآية على أنَّ عقوبة العالم بالذنب أعظم من عقوبة الجاهل به ، ومن لم تبلغه دعوة الإسلام لا يكون كافراً بترك الشَّرائع .

فصل

قال القاضي{[23]} : دلَّت الآية على أنَّ المؤاخذة بالذنب لا تحصل إلاَّ بعد البيان ، وإزاحة العلَّة ، ودلت الآية على أنَّ المعتبر حصول البيِّنات ، لا حصول اليقين من المكلف .

وقوله : " عَزِيزٌ " يدلُّ على الزَّجر ، والتهديد ، والوعيد ؛ لأن العزيز هو الذي لا يمنع عن مراده ، وذلك إنما يحصل بكمال القدرة ، وهو تعالى قادر على كل الممكنات ، فكأنَّه تعالى قال : { فَإِن زَلَلْتُمْ مِّن بَعْدِ مَا جَآءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ } فاعموا أنَّ الله قادرٌ عليكم ، لا يمنعه عنكم مانع ، وهذا نهاية في الوعيد ، لأنه يجمع من ضروب الخوف ما لا يجمعه الوعيد بذكر العقاب ؛ كقول السيِّد لعبده : إن عصيتني فأنت عارف بي ، وتعلم قدرتي عليك ، والآية كما أنها تدلُّ على نهاية الوعد بقوله : " حَكِيمٌ " فإنَّ اللائق بالحكمة أن يميز بين المحسن والمسيء ، فكما يحسن من الحكيم إيصال العذاب إلى المسيء يحسن منه إيصال الثواب إلى المحسن ، بل هذا أليق بالحكمة ، وأقرب للرحمة ، وهذه الآية تدلُّ على أنَّه لا وجوب لشيءٍ قبل الشَّرع ؛ لأنه تعالى أثبت التهديد بشرط مجيء البينات ، وقبل الشرع لم تحصل كلُّ البيِّنات .

فصل

قال الجبَّائيُّ{[24]} : المجبرة تقول : إن الله تعالى يريد الكفر من الكفَّار ، والسَّفاهة من السُّفهاء ، والله تعالى وصف نفسه بأنه حكيم ، ومن فعل السَّفه وأراده لا يكون حكيماً ، وأجيب بأن الحكيم هو العالم بعواقب الأمور ، فمعنى كونه تعالى حكيماً أنَّه عالم بجميع المعلومات وذلك لا ينافي كونه خالقاً لكل الأشياء ، ومريداً لها .

فصل

يحكى أنَّ قارئاً قرأ " فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ البَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ " فسمعه أعرابيٌّ ، فأنكره ؛ وقال : إنَّ هذا كلام الله تعالى فلا يقول كذا ؛ الحكيم لا يذكر الغفران عند الزَّلل ؛ [ أنه إغراءٌ عليه ] .


[20]:ينظر: الكتاب 2/107.
[21]:ينظر: البحر المحيط 2/391.
[22]:سقط في ب.
[23]:ينظر: الدر المصون 2/6.
[24]:ينظر ديوانه ص 216، ولسان العرب (ثور)، وخزانة الأدب 7/210، ورصف المباني ص 41 والمصنف 1/68، والدر المصون 2/6.