قوله سبحانه وتعالى : { فإذا قرأت القرآن } ، أي : أردت قراءة القرآن { فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم } ، كقوله تعالى : { إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا } [ المائدة – 6 ] ، والاستعاذة سنة عند قراءة القرآن . وأكثر العلماء على أن الاستعاذة قبل القراءة . وقال أبو هريرة : بعدها . ولفظه أن يقول : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم .
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أنبأنا أبو محمد عبد الرحمن بن أبي شريح ، أنبأنا أبو القاسم البغوي ، حدثنا علي بن الجعد ، أنبأنا شعبة بن عمرو بن مرة ، سمعت عاصماً عن ابن جبير بن مطعم ، عن أبيه : أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يصلي ، قال : فكبر ، فقال : الله أكبر كبيراً ، ثلاث مرات ، والحمد لله كثيراً ، ثلاث مرات ، وسبحان الله بكرة وأصيلا ، ثلاث مرات ، اللهم إني أعوذ بك من الشيطان الرجيم ، من همزه ونفخه ، ونفثه . قال عمرو : ونفخه : الكبر ، ونفثه : الشعر ، وهمزه : المونة ، والمونة الجنون ، والاستعاذة بالله هي : الاعتصام به .
هذا أمر من الله تعالى لعباده{[16692]} على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم : إذا أرادوا قراءة القرآن ، أن يستعيذوا بالله من الشيطان الرجيم . وهو أمرُ ندبٍ ليس بواجب ، حكى الإجماع على ذلك{[16693]} : الإمام أبو جعفر بن جرير وغيره من الأئمة . وقد قدمنا الأحاديث الواردة في الاستعاذة مبسوطة في أول التفسير ، ولله الحمد والمنة .
والمعنى في الاستعاذة عند ابتداء القراءة ، لئلا يلبس{[16694]} على القارئ قراءته ويخلط عليه ، ويمنعه من التدبر والتفكر ، ولهذا ذهب الجمهور إلى أن الاستعاذة إنما تكون قبل التلاوة{[16695]} ، وحكي عن حمزة وأبي حاتم السجستاني : أنها تكون بعد التلاوة ، واحتجا بهذه الآية . ونقل النووي في شرح المهذب مثل ذلك عن أبي هريرة أيضًا ، ومحمد بن سيرين ، وإبراهيم النَّخَعي . والصحيح الأول ، لما تقدم من الأحاديث الدالة على تقدمها على التلاوة ، والله أعلم .
الفاء في قوله : { فإذا } واصلة بين الكلامين ، والعرب تستعملها في مثل هذا ، وتقدير الآية فإذا أخذت في قراءة القرآن ، كما قال عز وجل : { إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم }{[7411]} [ المائدة : 6 ] ، وكما تقول لرجل إذ أكلت فَقُل : بسم الله ، و «الاستعاذة » ندب عند الجميع ، وحكى النقاش عن عطاء أن التعوذ واجب ، ولفظ الاستعاذة هو على رتبة الآية ، وقد ذكرت الخلاف الذي قيل فيه في صدر هذا الكتاب ، و { الرجيم } ، المرجوم باللعنة ، وهو إبليس ، ثم أخبر الله تعالى أن إبليس ليس له ملكة ولا رياسة ، هذا ظاهر «السلطان » عندي في هذه الآية ، وذلك أن «السلطان » إن جعلناه الحجة ، فليس له حجة في الدنيا على أحد لا مؤمن ولا كافر ، اللهم إلا أن يتأول متأول .
موقع فاء التّفريع هنا خفيّ ودقيق ، ولذلك تصدّى بعض حذّاق المفسّرين إلى البحث عنه . فقال في « الكشاف » : « لما ذكر العمل الصالح ووعد عليه وصل به قوله تعالى : { فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله } إيذاناً بأن الاستعاذة من جملة الأعمال التي يجزل عليها الثواب » اهـ .
وهو إبداء مناسبة ضعيفة لا تقتضي تمكّن ارتباط أجزاء النظم .
وقال فخر الدين : « لما قال : { ولنجزيهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون } [ سورة النحل : 97 ] أرشد إلى العلم الذي تَخلُص به الأعمال من الوسواس اهـ .
وهو أمكن من كلام الكشاف . وزاد أبو السعود : « لما كان مدار الجزاء هو حسن العمل رتّب عليه الإرشاد إلى ما به يحسن العَمل الصالح بأن يخلُص من شوب الفساد » . وفي كلاميهما من الوهن أنه لا وجه لتخصيص الاستعاذة بإرادة قراءة القرآن .
وقول ابن عطية : « الفاء في { فإذا } واصلة بين الكلامين والعرب تستعملها في مثل هذا » ، فتكون الفاء على هذا لمجرّد وصل كلام بكلام واستشهد له بالاستعمال والعهدة عليه .
وقال شرف الدين الطيبي : « قوله تعالى : { فإذا قرأت القرآن } متّصل بالفاء بما سبق من قوله تعالى : { ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين } [ سورة النحل : 89 ] . وذلك لأنه تعالى لما منّ على النبي بإنزال كتاب جامع لصفات الكمال وأنه تبيان لكل شيء ، ونبّه على أنه تبيان لكل شيء بالكلمة الجامعة وهي قوله تعالى : { إن الله يأمر بالعدل والإحسان } [ سورة النحل : 90 ] الآية . وعطف عليه { وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم } [ سورة النحل : 91 ] ، وأكّده ذلك التأكيد ، قال بعد ذلك { فإذا قرأت القرآن } ، أي إذا شرعت في قراءة هذا الكتاب الشريف الجامع الذي نُبهتَ على بعض ما اشتمل عليه ، ونازعك فيه الشيطان بهمزه ونفثه فاستعذ بالله منه والمقصود إرشاد الأمّة » ا هـ .
وهذا أحسن الوجوه وقد انقدح في فكري قبل مطالعة كلامه ثم وجدته في كلامه فحمدت الله وترحّمته عليه . وعليه فما بين جملة { ونزلنا عليك الكتاب تبياناً } [ النحل : 89 ] الخ ، وجملة { فإذا قرأت القرآن } جملة معترضة . والمقصود بالتفريع الشروع في التنويه بالقرآن .
وإظهار اسم { القرآن } دون أن يضمر للكتاب لأجل بعد المعاد .
والأظهر أن { قرأت } مستعمل في إرادة الفعل ، مثل قوله تعالى : { إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم } [ سورة المائدة : 6 ] ، وقوله : { وأوفوا الكيل إذا كلتم } [ سورة الإسراء : 35 ] وقوله : { والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا } [ سورة المجادلة : 3 ] ، أي يريدون العَود إلى أزواجهم بقرينة قوله بعده { من قبل أن يتماسا } في سورة المجادلة ( 3 ) ، وقوله تعالى : { وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذريّة ضعافا } في سورة النساء ( 9 ) ، أي أوشكوا أن يتركوا بعد موتهم ، وقوله { وإذا سألتموهن متاعاً فاسألوهن من وراء حجاب } [ سورة الأحزاب : 53 ] ، أي إذا أردتم أن تسألوهن ، وفي الحديث إذا بايعت فقل : لا خلابة .
وحَملهُ قليل من العلماء على الظاهر من وقوع الفعل فجعلوا إيقاع الاستعاذة بعد القراءة . ونُسب إلى مالك في المجموعة . والصحيح عن مالك خلافه ، ونسب إلى النخعي وابن سيرين وداود الظاهري وروي عن أبي هُريرة .
والباء في { بالله } لتعدية فعل الاستعاذة . يقال : عاذ بحصن ، وعاذ بالحرم .
والسين في { فاستعذ بالله } للطلب ، أي فاطلب العوذ بالله من الشيطان ، والعوذ : اللجأ إلى ما يعصم ويقي من أمر مضرّ .
ومعنى طلب العوذ بالله محاولة العوذ به . ولا يتصوّر ذلك في جانب الله إلا بالدعاء أن يعيذه . ومن أحسن الامتثال محاكاة صيغة الأمر فيما هو من قبيل الأقوال بحيث لا يغيّر إلا التغيير الذي لا مناص منه فتكون محاكاة لفظ « استعذ » بما يدلّ على طلب العوذ بأن يقال : أستعيذ ، أو أعوذ ، فاختير لفظ أعوذ لأنه من صيغ الإنشاء ، ففيه إنشاء الطلب بخلاف لفظ أستعيذ فإنه أخفى في إنشاء الطلب ، على أنه اقتداء بما في الآية الأخرى { وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين } [ سورة المؤمنون : 97 ] وأبقي ما عدا ذلك من ألفاظ آية الاستعاذة على حاله . وهذا أبدع الامتثال ، فقد ورد في عمل النبي بهذا الأمر أنه كان يقول : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم يحاكي لفظ هذه الآية ولم يقل في الاستعاذة { أعوذ بك من همزات الشياطين } لأن ذلك في غير قراءة القرآن ، فلذلك لم يحاكه النبي صلى الله عليه وسلم في استعاذته للقراءة .
قال ابن عَطية : لم يصح عن النبي زيادة على هذا اللفظ . وما يروى من الزيادات لم يصحّ منه شيء . وجاء حديث الترمذي عن أبي سعيد الخدري قال : " كان رسول الله إذا قام من الليل يقول : أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم من همزه الخ " . فتلك استعاذة تعوّذ وليست الاستعاذةَ لأجل قراءة القرآن .
واسم الشيطان تقدم عند قوله تعالى : { إلى شياطينهم } في سورة البقرة ( 14 ) . والرجيم } تقدم عند قوله تعالى : { وحفظناها من كل شيطان رجيم } في سورة الحجر ( 17 ) .
والخطاب للنبيء والمراد عمومه لأمّته بقرينة قوله تعالى : { إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون } .
وإنما شرعت الاستعاذة عند ابتداء القراءة إيذاناً بنفاسة القرآن ونزاهته ، إذ هو نازل من العالم القدسي الملَكي ، فجعل افتتاح قراءته بالتجرّد عن النقائص النفسانية التي هي من عمل الشيطان ولا استطاعة للعبد أن يدفع تلك النقائص عن نفسه إلا بأن يسأل الله تعالى أن يبعد الشيطان عنه بأن يعُوذ بالله ، لأن جانب الله قدسيّ لا تسلك الشياطين إلى من يأوي إليه ، فأرشد الله رسوله إلى سؤال ذلك ، وضمن له أن يعيذه منه ، وأن يعيذ أمّته عوذاً مناسباً ، كما شرعت التسمية في الأمور ذوات البال وكما شرعت الطهارة للصلاة .
وإنما لم تشرع لذلك كلمة ( باسم الله ) لأن المقام مقام تخلّ عن النقائص ، لا مقام استجلاب التيّمن والبركة ، لأن القرآن نفسه يُمن وبركة وكمال تامّ ، فالتيّمن حاصل وإنما يخشى الشيطان أن يغشى بركاتهِ فيُدخل فيها ما ينقصها ، فإن قراءة القرآن عبارة مشتملة على النطق بألفاظه والتّفهّم لمعانيه وكلاهما معرّض لوسوسة الشيطان وسوسة تتعلّق بألفاظه مثل الإنساء ، لأن الإنساء يضيع على القارىء ما يحتوي عليه المقدار المنسي من إرشاد ، ووسوسةٌ تتعلّق بمعانيه مثل أن يخطىء فهماً أو يقلب عليه مراداً ، وذلك أشد من وسوسة الإنساء .
وهذا المعنى يلائم محمل الأمر بالاستعاذة عند الشروع في القراءة .
فأما الذين حملوا تعلّق الأمر بالاستعاذة أنَها بعد الفراغ من القراءة ، فقالوا لأن القارىء كان في عبادة فربما دخله عُجب أو رياء وهما من الشيطان فأمر بالتعوّذ منه للسلامة من تسويله ذلك .
ومحمل الأمر في هذه الآية عند الجمهور على النّدب لانتفاء أمارات الإيجاب ، فإنه لم يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم بيّنه . فمن العلماء من ندبه مطلقاً في الصلاة وغيرها عند كل قراءة . وجعل بعضُهم جميعَ قراءة الصلاة قراءة واحدة تكفي استعاذة واحدة في أوّلها ، وهو قول جمهور هؤلاء . ومنهم من جعل قراءة كل ركعة قراءة مستقلة .
ومن العلماء من جعله مندوباً للقراءة في غير الصلاة ، وهو قول مالك ، وكرهها في قراءة صلاة الفريضة وأباحها بلا ندب في قراءة صلاة النافلة .
ولعلّه رأى أن في الصلاة كفاية في الحفظ من الشيطان .
وقيل : الأمر للوجوب ، فقيل في قراءة الصلاة خاصة ونسب إلى عطاء . وقد أطلق القرآن على قرآن الصلاة في قوله تعالى : { إن قرآن الفجر كان مشهودا } [ سورة الإسراء : 78 ] وقال : الثوري بالوجوب في قراءة الصلاة وغيرها . وعن ابن سيرين تجب الاستعاذة عند القراءة مرّة في العمر ، وقال قوم : الوجوب خاص بالنبي والنّدب لبقية أمّته .
ومدارك هذه الأقوال ترجع إلى تأويل الفعل في قوله تعالى : { قرأت } ، وتأويل الأمر في قوله تعالى : { فاستعذ } ، وتأويل القرآن مع ما حفّ بذلك من السّنة فعلاً وتركاً .
وعلى الأقوال كلها فالاستعاذة مشروعة لللشروع في القراءة أو لإرادته ، وليست مشروعة عند كلّ تلفّظ بألفاظ القرآن كالنّطق بآية أو آيات من القرآن في التعليم أو الموعظة أو شبههما ، خلافاً لما يفعله بعض المتحذّقين إذا ساق آية من القرآن في غير مقام القراءة أن يقول كقوله تعالى بعدَ أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ويسوق آية .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: وإذا كنت يا محمد قارئا القرآن، "فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم". وكان بعض أهل العربية يزعم أنه من المؤخر الذي معناه التقديم. وكأن معنى الكلام عنده: وإذا استعذت بالله من الشيطان الرجيم، فاقرأ القرآن. ولا وجه لما قال من ذلك؛ لأن ذلك لو كان كذلك، لكان متى استعاذ مستعيذ من الشيطان الرجيم لزمه أن يقرأ القرآن، ولكن معناه ما وصفناه. وليس قوله: {فاسْتَعِذْ باللّهِ مِنَ الشّيْطانِ الرّجِيمِ}، بالأمر اللازم، وإنما هو إعلام وندب، وذلك أنه لا خلاف بين الجميع أن من قرأ القرآن ولم يستعذ بالله من الشيطان الرّجيم قبل قرأته أو بعدها أنه لم يضيع فرضا واجبا...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{فإذا قرأت القرءان فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم}، كقوله في آية أخرى: {وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله} (الأعراف: 200)، وكقوله في آية أخرى: {قل رب أعوذ بك من همزات الشيطان} (المؤمنون: 97)، فيجب أن يتعوذ من همزاته على ما أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أو عند نزغ الشيطان على ما ذكر...
وأصل التعوذ هو الاعتصام بالله من وساوس عدوه وكيده...
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
والاستعاذة: هي استدفاع الأذى بالأعلى من وجه الخضوع والتذلل، والمعنى: فاستعذ بالله من وسوسة الشيطان عند قراءتك لتسلم في التلاوة من الزلل، وفي التأويل من الخطأ...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
ثم خاطب نبيه، فقال: يامحمد "إذا قرأت القرآن"، والمراد به: جميع المكلفين،...أي: استعذ بالله من المبعد من رحمة الله المرجوم، من سخطه...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
شيطانُ كُلِّ واحدٍ ما يشغله عن ربه، فمن تَسَلَّطَتْ عليه نَفْسُه حتى شَغَلَتْه عن ربه، ولو بشهود طاعةٍ، أو استحلاءِ عبادة، أو ملاحظةِ حال -فذلك شيطانُه. والواجبُ عليه أن يستعيذَ بالله من شرِّ نَفْسِه، وشرِّ كل ذي شر...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
لما ذكر العمل الصالح ووعد عليه، وصل به قوله: {فَإِذَا قَرَأْتَ القرءان فاستعذ بالله} إيذاناً بأن الاستعاذة من جمله الأعمال الصالحة التي يجزل الله عليها الثواب. والمعنى: فإذا أردت قراءة القرآن فاستعذ كقوله: {إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم} [المائدة: 6]، وكقولك: إذا أكلت فسمّ الله...
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
وَقَالَ الْعُلَمَاءُ: إذَا أَرَادَ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ تَعَوَّذَ بِاَللَّهِ، وَتَأَوَّلُوا ظَاهِرَ "إذَا قَرَأْت "عَلَى أَنَّهُ إذَا أَرَدْت،...
فَإِنْ قِيلَ: وَمَا الْفَائِدَةُ فِي الِاسْتِعَاذَةِ من الشَّيْطَانِ وَقْتَ الْقِرَاءَةِ؟ قُلْنَا: فَائِدَتُهُ امْتِثَالُ الْأَمْرِ؛ وَلَيْسَ لِلشَّرْعِيَّاتِ فَائِدَةٌ إلَّا الْقِيَامُ بِحَقِّ الْوَفَاءِ فِي امْتِثَالِهَا أَمْرًا، أَوْ اجْتِنَابِهَا نَهْيًا. وَقَدْ قِيلَ: فَائِدَتُهَا الِاسْتِعَاذَةُ من وَسَاوِسِ الشَّيْطَانِ عِنْدَ الْقِرَاءَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَا من قَبْلِكَ من رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إلَّا إذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أَمْنِيَّتِهِ}، يَعْنِي: فِي تِلَاوَتِهِ...
اعلم أنه تعالى لما قال قبل هذه الآية: {ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون} أرشد إلى العمل الذي به تخلص أعماله عن الوساوس فقال: {فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم}... الشيطان ساع في إلقاء الوسوسة في القلب حتى في حق الأنبياء بدليل قوله تعالى: {وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته} والاستعاذة بالله مانعة للشيطان من إلقاء الوسوسة بدليل
{إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون} فلهذا السبب أمر الله تعالى رسوله بالاستعاذة عند القراءة حتى تبقى تلك القراءة مصونة عن الوسوسة...
المراد بالشيطان في هذه الآية قيل إبليس، والأقرب أنه للجنس، لأن لجميع المردة من الشياطين حظا في الوسوسة...
التفسير القيم لابن القيم 751 هـ :
فإن قيل: فقد أثبت له على أوليائه هاهنا سلطانا، فكيف نفاه بقوله تعالى حاكيا عنه مقررا له: {وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي} [إبراهيم: 22] وقال تعالى: {ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه إلا فريقا من المؤمنين * وما كان له عليهم من سلطان إلا لنعلم من يؤمن بالآخرة ممن هو منها في شك} [سبأ: 20. 21]. قيل: السلطان الذي أثبته له عليهم غير الذي نفاه من وجهين:... أحدهما: أن السلطان الثابت: هو سلطان التمكن منهم، وتلاعبه بهم، وسوقه إياهم كيف أراد، بتمكينهم إياه من ذلك، بطاعته وموالاته، والسلطان الذي نفاه: سلطان الحجة، فلم يكن لإبليس عليهم من حجة يتسلط بها، غير أنه دعاهم فأجابوه بلا حجة ولا برهان...
الثاني: إن الله لم يجعل له عليهم سلطانا ابتداء البتة ولكن هم سلطوه على أنفسهم بطاعته، ودخولهم في جملة جنده وحزبه، فلم يتسلط عليهم بقوته. فإن كيده ضعيف: وإنما تسلطن عليهم بإرادتهم واختيارهم...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما تقررت هذه الأحكام على هذه الوجوه الجليلة، وأشارت بحسن ألفاظها وشرف سياقها إلى أغراض هي مع جلالتها غامضة دقيقة، فلاح بذلك أن القرآن تبيان لكل شيء، في حق من سلم من غوائل الهوى وحبائل الشيطان، وختم ذلك بالحث على العمل الصالح، وكان القرآن تلاوة وتفكراً وعملاً بما ضمن أجل الأعمال الصالحة، تسبب عن ذلك الأمر بأنه إذا قرىء هذا القرآن المنزل على مثل تلك الأساليب الفائقة، يستعاذ من الشيطان لئلا يحول بوساوسه بين القارئ وبين مثل تلك الأغراض والعمل بها، وحاصله: الحث على التدبر، وصرف جميع الفكر إلى التفهم والالتجاء إليه تعالى في كل عمل صالح، لئلا يفسده الشيطان بوساوسه، أو يحول بين الفهم وبينه، بياناً لقدر الأعمال الصالحة، وحثاً على الإخلاص فيها وتشمير الذيل عند قصدها، لا سيما أفعال القلوب التي هي أغلب ما تقدم هنا، فقال تعالى مخاطباً لأشرف خلقه، ليفهم غيره من باب الأولى، فيكون أبلغ في حثه وأدعى إلى اتباعه: {فإذا قرأت}، أي: أردت أن تقرأ مثل: {وكم من قرية أهلكناها فجاءها بأسنا} [الأعراف: 4]. {القرآن}، الذي هو قوام العمل الصالح، والداعي إليه والحاث عليه، مع كونه تبياناً لكل شيء، وهو اسم جنس يشمل القليل منه والكثير. {فاستعذ}، أي: إن شئت جهراً وإن شئت سراً؛ قال الإمام الشافعي: والإسرار أولى في الصلاة، وفي قول: يجهر كما يفعل خارج الصلاة. {بالله}، أي: سل الذي له الكمال كله أن يعيذك. {من الشيطان}، أي: المحترق باللعنة. {الرجيم}، أي: المطرود عن الرحمة، من أن يصدك بوساوسه عن اتباعه، فإنه لا عائق عن الإذعان لأساليبه الحسان إلا خذلان الرحمن، بوساوس الشيطان، فقل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم؛ لأن ذلك أوفق للقرآن...
فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني 1250 هـ :
وتخصيص قراءة القرآن من بين الأعمال الصالحة بالاستعاذة عند إرادتها للتنبيه على أنها لسائر الأعمال الصالحة عند إرادتها أهمّ، لأنه إذا وقع الأمر بها عند قراءة القرآن الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه كانت عند إرادة غيره أولى... وتوجيه الخطاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم للإشعار بأن غيره أولى منه بفعل الاستعاذة؛ لأنه إذا أمر بها لدفع وساوس الشيطان مع عصمته، فكيف بسائر أمته؟...
محاسن التأويل للقاسمي 1332 هـ :
لما كان القرآن هو الذكر الحكيم والحق المبين، وكان لكل حق محارب، وهو شيطان الجن أو الإنس، يثير الشبهات بوساوسه. ويفسد القلوب بدسائسه. أمر صلى الله عليه وسلم بأن يستعيذ بالله ويلتجئ إليه، عند تلاوة القرآن، من وسوسته؛ لأن قوة الإنسان تضعف عن دفعه بسهولة، فيحتاج إلى الاستعانة عليه بالله واللياذ بجواره منه...
هذه عادة الشيطان، إثر ما يتلوه كل نبي على أمته من الأحكام المتجددة التي يوحى بها لسعادة البشر، أنه يحول عنها الأنظار ويسعى لهدم ما أقيمت لأجله. وإن الله يحكم آياته وينسخ شبه الشيطان، ليحق الحق، ويبطل الباطل. فلما كانت هذه عادته، ولها من الأثر ما لها، احتيج إلى الاستعاذة به تعالى منها، عند قراءة الوحي ونشر تعاليمه...
ثم بين تعالى أن أثر وسوسته إنما يكون فيمن له سلطان عليهم. أي: تسلط، وولاية من أوليائه المتبعين خطواته. وأما الذين آمنوا وتوكلوا على ربهم، فصبروا على المكاره ولم يبالوا بما يلقون في سبيل الجهاد بالحق من العثرات، فليس له عليهم سلطان. فهم يضادون أمانيه ويهدمون كل ما يليقه؛ لأن إيمانهم يفيدهم النور الكاشف عن مكره، والتوكل على الله يفيدهم التقوية بالله، فيمنع من معاندة الشيطان وقوة تأثيره...
وسرها في غيره صلى الله عليه وسلم التحصن به تعالى أن لا يلبس الشيطان القراءة، وأن لا يمنع من التدبر والتذكر...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
والاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم تمهيد للجو الذي يتلى فيه كتاب الله، وتطهير له من الوسوسة واتجاه بالمشاعر إلى الله خالصة لا يشغلها شاغل من عالم الرجس والشر الذي يمثله الشيطان...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والسين في {فاستعذ بالله} للطلب، أي فاطلب العوذ بالله من الشيطان، والعوذ: اللجأ إلى ما يعصم ويقي من أمر مضرّ...
ومعنى طلب العوذ بالله محاولة العوذ به. ولا يتصوّر ذلك في جانب الله إلا بالدعاء أن يعيذه...
فاختير لفظ أعوذ لأنه من صيغ الإنشاء، ففيه إنشاء الطلب بخلاف لفظ أستعيذ فإنه أخفى في إنشاء الطلب، على أنه اقتداء بما في الآية الأخرى {وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين} [سورة المؤمنون: 97]... قال ابن عَطية: لم يصح عن النبي زيادة على هذا اللفظ. وما يروى من الزيادات لم يصحّ منه شيء. وجاء حديث الترمذي عن أبي سعيد الخدري قال:"كان رسول الله إذا قام من الليل يقول: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم من همزه الخ". فتلك استعاذة تعوّذ وليست الاستعاذةَ لأجل قراءة القرآن...
والخطاب للنبيء والمراد عمومه لأمّته بقرينة قوله تعالى: {إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون}. وإنما شرعت الاستعاذة عند ابتداء القراءة إيذاناً بنفاسة القرآن ونزاهته، إذ هو نازل من العالم القدسي الملَكي، فجعل افتتاح قراءته بالتجرّد عن النقائص النفسانية التي هي من عمل الشيطان ولا استطاعة للعبد أن يدفع تلك النقائص عن نفسه إلا بأن يسأل الله تعالى أن يبعد الشيطان عنه بأن يعُوذ بالله، لأن جانب الله قدسيّ لا تسلك الشياطين إلى من يأوي إليه، فأرشد الله رسوله إلى سؤال ذلك، وضمن له أن يعيذه منه، وأن يعيذ أمّته عوذاً مناسباً، كما شرعت التسمية في الأمور ذوات البال وكما شرعت الطهارة للصلاة...
وإنما لم تشرع لذلك كلمة (باسم الله) لأن المقام مقام تخلّ عن النقائص، لا مقام استجلاب التيّمن والبركة، لأن القرآن نفسه يُمن وبركة وكمال تامّ، فالتيّمن حاصل وإنما يخشى الشيطان أن يغشى بركاتهِ فيُدخل فيها ما ينقصها، فإن قراءة القرآن عبارة مشتملة على النطق بألفاظه والتّفهّم لمعانيه وكلاهما معرّض لوسوسة الشيطان وسوسة تتعلّق بألفاظه مثل الإنساء، لأن الإنساء يضيع على القارىء ما يحتوي عليه المقدار المنسي من إرشاد، ووسوسةٌ تتعلّق بمعانيه مثل أن يخطىء فهماً أو يقلب عليه مراداً، وذلك أشد من وسوسة الإنساء...
وهذا المعنى يلائم محمل الأمر بالاستعاذة عند الشروع في القراءة...
وعلى الأقوال كلها فالاستعاذة مشروعة لللشروع في القراءة أو لإرادته، وليست مشروعة عند كلّ تلفّظ بألفاظ القرآن كالنّطق بآية أو آيات من القرآن في التعليم أو الموعظة أو شبههما، خلافاً لما يفعله بعض المتحذّقين إذا ساق آية من القرآن في غير مقام القراءة أن يقول كقوله تعالى بعدَ أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ويسوق آية...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
ذلك أن قراءة القرآن ذكر لله، واستماع لحديث الله وترداد له فهو إصلاح للقلوب والنفوس، ولم يطلب من النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين قراءته بل إن الإيمان يقتضي قراءته؛ لأنه أحسن الحديث، بل كان الأمر بقراءته ضمنيا في ضمن الأمر بالاستعاذة من الشيطان الرجيم، وكان أمرا بالقراءة والاستعاذة معا، وفيه فائدة أن القراءة لا تجدي جدواها إلا إذا كانت معها الاستعاذة الحقيقية من الشيطان بإبعاد وساوسه في تمنيات الإنسان إذ إن الأماني ذريعة الشيطان، يدخل قلب المؤمن من جانبها كما أتى قلبي آدم وحواء بالأماني، ثم سول لهما الأكل من الشجرة... و {قرأت} هنا تطوى في ذاتها نية القراءة أي إرادتها... الإرادة والنية هما الحقيقتان والقول مظهرها ولا ينفصل الباعث عن المظهر إذا كانا متصلين في الوجود؛ ولذا كانت الاستعاذة مقدمة على القراءة بإجماع العلماء... والاستعاذة معناها الالتجاء إلى الله تعالى، والابتعاد عن وسوسة الشيطان وقت القراءة، ووسوسته تجئ من بث الأماني في النفس، وقد قلنا إنها ذريعة الشيطان وطريق دخول الهوى إلى النفس...
الاستعاذة: اللجوء والاعتصام بالله من شيء تخافه، فأنت لا تلجأ ولا تعتصم، ولا تستجير ولا تستنجد إلا إذا استشعرت في نفسك أنك ضعيف عن مقاومة عدوك...
فإذا كان عدوك الشيطان بما جعل الله له من قوة وسلطان، وما له من مداخل للنفس البشرية فلا حول لك ولا قوة في مقاومته إلا أن تلجأ إلى الله القوي الذي خلقك وخلق هذا الشيطان، وهو القادر وحده على رده عنك؛ لأن الشيطان في معركة مع الإنسان تدور رحاها إلى يوم القيامة. وقد أقسم الشيطان للحق تبارك وتعالى، فقال: {فبعزتك لأغوينهم أجمعين "82 "إلا عبادك منهم المخلصين "83 "} (سورة ص)...
ولذلك نقول دائماً: لا حول ولا قوة إلا بالله، أي: لا حول: لا تحول عن المعصية. ولا قوة. أي: على الطاعة إلا بالله...
ونحن نرى الصبي الصغير الذي يسير في الشارع مثلاً، قد يتعرض لمن يعتدي عليه من أمثاله من الصبية، أما إذا كان في صحبة والده فلا يجرؤ أحد منهم أن يتعرض له، فما بالك بمن يسير في صحبة ربه تبارك وتعالى، ويلقي بنفسه في حماية الله سبحانه؟!... ولو آمنا أن الله سبحانه وتعالى هو الذي يتكلم، لعلمنا أن قراءة القرآن تختلف عن أي قراءة أخرى، فأنت كي تقرأ القرآن تقوم بعمليات متعددة:... أولها: استحضار قداسة المنزل سبحانه الذي آمنت به وأقبلت على كلامه...
ثانيها: استحضار صدق الرسول في بلاغ القرآن المنزل عليه...
ثالثها: استحضار عظمة القرآن الكريم، بما فيه من أوجه الإعجاز، وما يحويه من الآداب والأحكام...
ثلاث عمليات تستعد بها لقراءة كلام الله في قرآنه الكريم، وكل منها عمل صالح لن يدعك الشيطان تؤديه دون أن يتعرض لك، ويوسوس لك، ويصرفك عما أنت مقبل عليه...
ومن هنا وجب علينا الاستعاذة بالله من الشيطان قبل قراءة القرآن...
ومع ذلك لا مانع من حمل المعنى على الاستعاذة أيضاً بعد قراءة القرآن، فيكون المراد: إذا قرأت القرآن فاستعذ بالله.. أي: بعد القراءة؛ لأنك بعد أن قرأت كتاب الله خرجت منه بزاد إيماني وتجليات ربانية، وتعرضت لآداب وأحكام طلبت منك، فعليك إذن أن تستعيذ بالله من الشيطان أن يفسد عليك هذا الزاد وتلك التجليات، أو يصرفك عن أداء هذه الآداب والأحكام...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ}؛ لأن قراءة القرآن تفتح قلب الإنسان وعقله وروحه وحياته على الخير كله، والحق كله، ولا بد له من أن يعيش هذا الانفتاح على القرآن قبل أن يقرأه ويتعمّق في وحيه وهو يقرأه، ويستمر في التحرك في نطاق مفاهيمه بعد أن ينتهي من القراءة، ليكون القرآن كتاب الحياة الذي ينبض مع كل نبضةٍ في قلبه، ويحلّق مع كل تحليقةٍ في فكره، وينطلق معه في كل حركة من حياته، وليأخذ منه عقيدته وشريعته وأسلوبه ومنهجه في الحياة، وكل تطلعاته تجاه المستقبل، وليكون القرآن كل خُلُقه، في ما يتميز به من خلق الإنسان الذي يحتوي كل سلوكه في علاقاته ومعاملاته. ولهذا كان لا بد للقراءة القرآنية من جوّ روحي منفتح على الله، لينفتح على الحياة كلها من خلال الله...
وهنا قد يتدخل الشيطان، فيلهيه عن ذكر الله، ويجمد إحساسه وشعوره عن وعي الحقيقة القرآنية، ويصرفه عن الانطلاق مع مفاهيمه في أجواء حياته، ليدفعه إلى أجواء أخرى من اللهو والضلال والضياع، فيلعب به كما يريد، ويلهو بعقله وبفكره كما يشاء.. ولذلك فلا بد من الاستعاذة بالله منه، فيتذكر الله عندما يتذكر الشيطان، فيستعين به، ويستمد منه القوّة في عقله وشعوره وإرادته، ليواجه كل خطوات الشيطان وأحابيله وخدعه وغروره وفتنته، فيتخلص من سيطرته على كل نزوات اللحم والدم، وكل شهوات المطامع...
وهذا ما نستوحيه من الاستعاذة بالله، فهي ليست مجرد موقف يتطلع فيه الإنسان إلى الله سبحانه ليحل له مشكلته، بشكلٍ مباشرٍ، دون أن يقوم بأيّ جهدٍ إرادي في هذا الاتجاه، بل هي موقفٌ يستجير فيه المؤمن بربه، ليعيش ثقته بالله من خلال إحساسه برحمته، ويستعيد عقيدته بقوة الله، التي تمد كل الحياة بالقوة، فينطلق في كل عملية مواجهة من هذا الموقع القوي، ويعمل، بكل طاقاته، في خط المواجهة لكل تحرك مضادٍّ له في إيمانه، ثم ينتظر أن تنهمر فيوضات الله وألطافه على روحه برداً وبركةً وسلاماً، وبذلك ينتصر من مواقع الإرادة والإيمان والممارسة، فيخرج من سلطان الشيطان ليبقى في سلطان الله...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
ولا يقصد من الاستعاذة الاكتفاء بذكر، بل ينبغي لها أنْ تكون مقدمة لتحقيق وإِيجاد الحالة الروحية المطلوبة.. حالة: التوجه إلى اللّه عزَّ وجلّ، الانفصال عن هوى النفس والعناد المانع للفهم والدرك الصحيح للإِنسان، البعد عن التعصبات والغرور وحبّ الذات ومحورية الذات التي تضغط على الإِنسان ليسخر كل شيء (حتى كلام اللّه) في تحقيق رغباته المنحرفة...