نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي  
{فَإِذَا قَرَأۡتَ ٱلۡقُرۡءَانَ فَٱسۡتَعِذۡ بِٱللَّهِ مِنَ ٱلشَّيۡطَٰنِ ٱلرَّجِيمِ} (98)

ولما تقررت هذه الأحكام على هذه الوجوه الجليلة ، وأشارت بحسن ألفاظها وشرف سياقها إلى أغراض هي مع جلالتها غامضة دقيقة ، فلاح بذلك أن القرآن تبيان لكل شيء ، في حق من سلم من غوائل الهوى وحبائل الشيطان ، وختم ذلك بالحث على العمل الصالح ، وكان القرآن تلاوة وتفكراً وعملاً بما ضمن أجل الأعمال الصالحة ، تسبب عن ذلك الأمر بأنه إذا قرىء هذا القرآن المنزل على مثل تلك الأساليب الفائقة ، يستعاذ من الشيطان لئلا يحول بوساوسه بين القارىء وبين مثل تلك الأغراض والعمل بها ، وحاصله : الحث على التدبر ، وصرف جميع الفكر إلى التفهم والالتجاء إليه تعالى في كل عمل صالح ، لئلا يفسده الشيطان بوساوسه ، أو يحول بين الفهم وبينه ، بياناً لقدر الأعمال الصالحة ، وحثاً على الإخلاص فيها وتشمير الذيل عند قصدها ، لا سيما أفعال القلوب التي هي أغلب ما تقدم هنا ، فقال تعالى مخاطباً لأشرف خلقه ، ليفهم غيره من باب الأولى ، فيكون أبلغ في حثه وأدعى إلى اتباعه : { فإذا قرأت } ، أي : أردت أن تقرأ مثل : { وكم من قرية أهلكناها فجاءها بأسنا }[ الأعراف : 4 ] . { القرآن } ، الذي هو قوام العمل الصالح ، والداعي إليه والحاث عليه ، مع كونه تبياناً لكل شيء ، وهو اسم جنس يشمل القليل منه والكثير . { فاستعذ } ، أي : إن شئت جهراً وإن شئت سراً ؛ قال الإمام الشافعي : والإسرار أولى في الصلاة ، وفي قول : يجهر كما يفعل خارج الصلاة . { بالله } ، أي : سل الذي له الكمال كله أن يعيذك . { من الشيطان } ، أي : المحترق باللعنة . { الرجيم * } ، أي : المطرود عن الرحمة ، من أن يصدك بوساوسه عن اتباعه ، فإنه لا عائق عن الإذعان ، لأساليبه الحسان ، إلا خذلان الرحمن ، بوساوس الشيطان ، فقل : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ؛ لأن ذلك أوفق للقرآن ، وقد ورد به بعض الأخبار عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه مرفوعاً ، وهو المشهور ، ونص عليه الإمام الشافعي رضي الله عنه ، والصارف لهذا الأمر عن الوجوب أحاديث كثيرة فيها القراءة بدون ذكر تعوذ ، كحديث البخاري وغيره ، " عن أبي سعيد بن المعلى رضي الله عنه : أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال له : ما منعك أن تجيبني ؟ قال : كنت أصلي ، قال : ألم يقل الله : { استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم } [ الأنفال : 24 ] ثم قال : لأعلمنك سورة هي أعظم سورة في القرآن : { الحمد لله رب العالمين } " وفي رواية الموطأ " : أنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم نادى أبياً ، وأنه قال : كيف تقرأ إذا افتتحت الصلاة ؟ قال أبي : فقرأت { الحمد لله رب العالمين } ، حتى أتيت على آخرها "

ومن طالع كتابي " مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور " ، رأى مثل هذا أحاديث كثيرة جداً ، من أحسنها حديث نزول سورة الكوثر ، وقيل : التعوذ بعد القراءة لظاهر الآية ، وختام القرآن بالمعوذتين موافق لهذا القول بالنسبة إلى الحال ، والقول الأول الصحيح بالنسبة إلى ما ندب إليه المرتحل من قراءة الفاتحة وأول البقرة .