يقول تعالى مخبرًا عن قلة إيمان أهل القرى الذين أرسل فيهم الرسل ، كقوله تعالى{[11984]} { فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ } [ يونس : 98 ]
أي : ما آمنت قرية بتمامها إلا قوم يونس ، فإنهم آمنوا ، وذلك بعد ما عاينوا العذاب ، كما قال تعالى : { وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ * فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ } [ الصافات : 147 ، 148 ] وقال تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ [ إِلا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ{[11985]} ] } [ سبأ : 34 ]
وقوله تعالى : { وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا } أي : آمنت قلوبهم بما جاءتهم به الرسل ، وصدقت به واتبعته ، واتقوا بفعل الطاعات وترك المحرمات ، { لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ } أي : قطر السماء ونبات الأرض . قال تعالى : { وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } أي : ولكن كذبوا رسلهم ، فعاقبناهم بالهلاك على ما كسبوا من المآثم والمحارم .
وقوله تعالى : { ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا } الآية المعنى في هذه الآية أنهم لو كانوا ممن سبق في علم الله أن يكتسبوا الإيمان والطاعات ويتصفوا بالتقى لتبع ذلك من فضل الله ورحمته وإنعامه ما ذكر من بركات المطر والنبات ولكنهم لما كانوا ممن سبق كفرهم وتكذيبهم تبع ذلك أخذ الله لهم بسوء ما اجترموه ، وكل مقدور ، والثواب والعقاب متعلق بكسب البشر ، وبسببه استندت الأفعال إليهم في قوله : { آمنوا واتقوا } وفي { كذبوا } وقرأ الستة من القراء السبعة «لفتحَنا » بخفيف التاء وهي قراءة الناس ، وقرأ ابن عامر وحده وعيسى الثقفي وأبو عبد الرحمن : «لفتّحنا » بتشديد التاء ، وفتح البركات إنزالها على الناس ومنه قوله تعالى : { ما يفتح الله للناس من رحمة } ومنه قالت الصوفية : الفتوح والبركات النمو والزيادات ، ومن السماء لجهة المطر والريح والشمس ، ومن الأرض لجهة الإنبات والحفظ لما ينبت ، هذا هو الذي يدركه نظر البشر ولله خدام غير ذلك لا يحصى عددهم ، وما في علم الله أكثر .
عُطفت جملة { ولو أن أهل القرى } على جملة : { وما أرسلنا في قرية من نبيء إلاّ أخذنا أهلها بالبأساء والضراء } [ الأعراف : 94 ] أي : ما أرسلنا في قرية نبيئاً فكذبه أهلها إلاّ نبهناهم واستدرجناهم ثم عاقبناهم ، ولو أن أهل تلك القرى المُهْلَكَةِ آمنوا بما جاءهم به رسولهم واتقوا ربهم لما أصبناهم بالبأساء ولأحييناهم حياة البركة ، أي : ما ظلمهم الله ولكنهم ظلموا أنفسهم .
وشرط ( لو ) الامتناعية يحصل في الزمن الماضي ، ولما جاءت جملة شرطها مقترنة بحرف ( أنّ ) المفيد للتأكيد والمصدرية ، وكان خبر ( أنّ ) فعلاً ماضياً توفر معنى المضي في جملة الشرط . والمعنى : لو حصل إيمانهم فيما مضى لفتحنا عليهم بركات .
والتقْوى : هي تقوى الله بالوقوف عند حدوده وذلك بعد الإيمان .
والتعريف في { القرى } تعريف العهد ، فإضافة { أهل } إليه تفيد عمومه بقدر ما أضيف هو إليه ، وهذا تصريح بما أفهمه الإيجاز في قوله : { وما أرسلنا في قرية من نبيء إلاّ أخذنا أهلها بالبأساء والضراء } [ الأعراف : 94 ] الآية كما تقدم ، وتعريض بإنذار الذين كذبوا محمداً صلى الله عليه وسلم من أهل مكة ، وتعريض ببشارة أهل القُرى الذين يؤمنون كأهل المدينة ، وقد مضى في صدر تفسير هذه السورة ما يقرّب أنها من آخر ما نزل بمكة ، وقيل ، إن آيات منها نزلت بالمدينة كما تقدم وبذلك يظهر موقع التعريض بالنذارة والبشارة للفريقين من أهل القرى ، وقد أخذ الله أهل مكة بعد خروج المؤمنين منها فأصابهم بسبع سنين من القحط ، وبارك لأهل المدينة وأغناهم وصرف عنهم الحمى إلى الجُحفة ، والجُحفة يومئذٍ بلاد شرك .
والفتح : إزالة حَجْز شيء حاجز عن الدخول إلى مكان ، يقال : فتح الباب وفتح البيت ، وتعديته إلى البيت على طريقة التوسع ، وأصله فتح للبيت ، وكذلك قوله هنا : { لفتحنا عليهم بركات } وقولُه : { ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها } [ فاطر : 2 ] ، ويقال : فتح كوة ، أي : جعلها فتحة ، والفتح هنا استعارة للتمكين ، كما تقدم في قوله تعالى : { فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء } في سورة الأنعام ( 44 ) .
وتعدية فعل الفتح إلى البركات هنا استعارة مكنية بتشبيه البركات بالبيوت في الانتفاع بما تحتويه ، فهنا استعارتان مكنية وتبعية ، وقرأ ابن عامر : { لفتّحنا } بتشديد التاءِ وهو يفيد المبالغة .
والبركات : جمع بركة ، والمقصود من الجمع تعددها ، باعتبار تعدد أصناف الأشياء المباركة . وتقدم تفسير البركة عند قوله تعالى : { وهذا كتاب أنزلناه مبارك } في سورة الأنعام ( 92 ) . وتقدم أيضاً في قوله تعالى : { إن أول بيت وضع للناس للّذي بمكّة مباركاً } في سورة آل عمران ( 96 ) . وتقدم أيضاً في قوله تعالى : { تَبارك الله رب العالمين } في هذه السورة ( 54 ) ، وجُماع معناها هو الخير الصالح الذي لا تبعة عليه في الآخرة فهو أحسن أحوال النعمة ، ولذلك عبر في جانب المغضوب عليهم المستدرَجين بلفظ الحسنة } بصيغة الإفراد في قوله : { مكان السيئة الحسنة } [ الأعراف : 95 ] وفي ج انب المؤمنين بالبركات مجموعة .
وقوله : { من السماء والأرض } مراد به حقيقته ، لأن ما يناله الناس من الخيرات الدنيوية لا يعدو أن يكون ناشئاً من الأرض ، وذلك معظم المنافع ، أو من السماء مثل ماء المطر وشعاع الشمس وضوء القمر والنجوم والهواء والرياح الصالحة .
وقوله : { ولكن كذبوا } استثناء لنقيض شرط ( لو ) فإن التكذيب هو عدم الإيمان فهو قياس استثنائي .
وجملة : { فأخذناهم } متسببة على جملة : { ولكن كذبوا } وهو مثل نتيجة القياس ، لأنه مساوي نقيضِ التالي ، لأن أخذهم بما كسبوا فيه عدم فتح البركات عليهم .
وتقدم معنى الأخذ آنفاً في قوله تعالى : { فأخذناهم بغتة } [ الأعراف : 95 ] ، والمراد به أخذ الاستئصال .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ولو أن أهل القرى} التي عذبت، {آمنوا} بتوحيد الله، {واتقوا} الشرك ما قحط عليهم المطر، و {لفتحنا عليهم بركات من السماء}، يعني المطر، {والأرض}، يعني النبات، {ولكن كذبوا فأخذناهم} بالعذاب، {بما كانوا يكسبون} من الشرك والتكذيب.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
... وقوله تعالى: {ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا} قيل {آمنوا واتقوا} قبل أن يهلكوا بعد ما أصابهم من الشدائد والبلايا {لفتحنا عليهم بركات...}؛ أي لأعطُوا كل خير، ينال من السماء والأرض. البركة كل ما ينال من خير على غير مؤنة، والبركة كل شيء ينال بلا تبعة عليه ولا شدة. ذكر ههنا أنه يفتح عليهم بركات من السماء والأرض، لو آمنوا ونسوا ما ذكّروا به، أنه يفتح عليهم أبواب كل شيء، ولم يذكر البركة. ففي ما لم يذكر البركة ينغّصهم ما فتح عليهم من كل شيء، ويسوؤهم، وفي ما ذكر فيه البركة بعد الإيمان لا يلحقهم من ذلك تبعة ولا غرم، والله اعلم. وقوله تعالى: {ولكن كذّبوا} الرسل {فأخذناهم بما كانوا يكسبون} ويحتمل قوله تعالى: {ولكن كذّبوا} النعم التي أنعمها عليهم أي الرسل {فأخذناهم بما كانوا يكسبون} من التكذيب، والله أعلم...
الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :
{وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ} يعني وحدوا الله وأطاعوه. {بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} من الكفر والمعصية والأعمال الخبيثة.
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
ويحتمل أن تكون بركات السماء قبول الدعاء. وبركات الأرض: تسهيل الحاجات.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
لو آمنوا بالله، واتَّقُوا الشِّرْكَ لفتحنا عليهم بركاتٍ من السماء والأرض بأسبابِ العطاء -ولكنْ سَبَقَ بخلافه القضاء- وأبوابِ الرضاء، والرضاءُ أتمُّ من العطاء. ويقال ليست العِبْرة بالنعمة إنما العبرة بالبركة في النعمة، ولذا لم يَقُلْ أضعفنا لهم النعمة ولكنه قال: باركنا لهم فيما خوَّلنا.
الوجيز في تفسير الكتاب العزيز للواحدي 468 هـ :
{ولكن كذبوا} الرسل {فأخذناهم} بالجدوبة والقحط {بما كانوا يكسبون} من الكفر والمعصية
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي 516 هـ :
قوله تعالى: {ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض}، يعني: المطر من السماء، والنبات من الأرض. وأصل البركة: المواظبة على الشيء، أي تابعنا عليهم المطر والنبات ورفعنا عنهم القحط والجدب...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
"اللام" في القرى: إشارة إلى القرى التي دلّ عليها قوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مّن نَّبِي} [الأعراف: 94] كأنه قال: ولو أنّ أهل تلك القرى الذين كذبوا وأهلكوا {ءامَنُواْ} بدل كفرهم {واتقوا} المعاصي مكان ارتكابها {لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بركات مّنَ السماء والأرض} لآتيناهم بالخير من كل وجه...
{ولكن كَذَّبُواْ فأخذناهم} بسوء كسبهم...
فإن قلت: ما معنى فتح البركات عليهم؟ قلت: تيسيرها عليهم كما ييسر أمر الأبواب المستغلقة بفتحها. ومنه قولهم: فتحت على القارئ إذا تعذرت عليه القراءة فيسرتها عليه بالتلقين.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
المعنى في هذه الآية أنهم لو كانوا ممن سبق في علم الله أن يكتسبوا الإيمان والطاعات ويتصفوا بالتقى لتبع ذلك من فضل الله ورحمته وإنعامه ما ذكر من بركات المطر والنبات، ولكنهم لما كانوا ممن سبق كفرهم وتكذيبهم تبع ذلك أخذ الله لهم بسوء ما اجترموه وكل مقدور، والثواب والعقاب متعلق بكسب البشر،... وفتح البركات إنزالها على الناس ومنه قوله تعالى: {ما يفتح الله للناس من رحمة}...
الجواهر الحسان في تفسير القرآن للثعالبي 875 هـ :
"بركات مِّنَ السماء والأرض" أي: مِنْ بركاتِ المطرِ والنباتِ، وتسخير الرياحِ والشمْسِ والقمر في مصالح العبادِ، وهذا بحَسَب ما يدركُه نَظَر البشر، وللَّه سبحانه خُدَّامٌ غير ذلك لا يحصى عددهم، وما في عِلْم اللَّه أكْثَرُ.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
فالقاعدة المقررة في القرآن أن الإيمان الصحيح ودين الحق سبب لسعادة الدنيا ونعمتها بالحق والاستحقاق وأن الكفار قد يشاركونهم في الماديّ منها كما قال تعالى فيهم من سورة الأنعام {فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء} [الأنعام: 44] فذلك الفتح ابتلاء واختبار لحالهم كان أثره فيهم فرح البطر والأشر بدلا من الشكر، وترتب عليه العقاب الإلهي فكان نقمة لا نعمة، وفتنة لا بركة. وأما المؤمنون فإن ما يفتح عليهم يكون بركة ونعمة ويكون أثره فيهم الشكر لله عليه والرضا منه والاغتباط بفضله، واستعماله في سبيل الخير دون الشر وفي الإصلاح دون الإفساد، ويكون جزاؤهم عليه من الله تعالى زيادة النعم ونموها في الدنيا وحسن الثواب عليها في الآخرة، فالفارق بين الفتحين يؤخذ من جعل هذا من البركات الربانية، ومن تنكيره الدال على أنواع لم يعهدها الكفار.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
فلو أن أهل القرى آمنوا بدل التكذيب، واتقوا بدل الاستهتار؛ لفتح الله عليهم بركات من السماء والأرض.. هكذا. مفتوحة بلا حساب. من فوقهم ومن تحت أرجلهم. والتعبير القرآني بعمومه وشموله يلقي ظلال الفيض الغامر، الذي لا يتخصص بما يعهده البشر من الأرزاق والأقوات.. والإيمان بالله تحرر من العبودية للهوى ومن العبودية للعبيد. وما من شك أن الإنسان المتحرر بالعبودية لله، أقدر على الخلافة في الأرض خلافة راشدة صاعدة. من العبيد للهوى ولبعضهم بعضاً! إن البركات الحاصلة مع الإيمان والتقوى، بركات في الأشياء، وبركات في النفوس، وبركات في المشاعر، وبركات في طيبات الحياة.. بركات تنمي الحياة وترفعها في آن. وليست مجرد وفرة مع الشقوة والتردي والانحلال.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والفتح: إزالة حَجْز شيء حاجز عن الدخول إلى مكان، يقال: فتح الباب وفتح البيت، وتعديته إلى البيت على طريقة التوسع، وأصله فتح للبيت، وكذلك قوله هنا: {لفتحنا عليهم بركات} وقولُه: {ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها} [فاطر: 2]، ويقال: فتح كوة، أي: جعلها فتحة، والفتح هنا استعارة للتمكين، كما تقدم في قوله تعالى: {فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء} في سورة الأنعام (44).
وتعدية فعل الفتح إلى البركات هنا استعارة مكنية بتشبيه البركات بالبيوت في الانتفاع بما تحتويه، فهنا استعارتان مكنية وتبعية، وقرأ ابن عامر: {لفتّحنا} بتشديد التاءِ وهو يفيد المبالغة.
والبركات: جمع بركة، والمقصود من الجمع تعددها، باعتبار تعدد أصناف الأشياء المباركة. وتقدم تفسير البركة عند قوله تعالى: {وهذا كتاب أنزلناه مبارك} في سورة الأنعام (92). وتقدم أيضاً في قوله تعالى: {إن أول بيت وضع للناس للّذي بمكّة مباركاً} في سورة آل عمران (96). وتقدم أيضاً في قوله تعالى: {تَبارك الله رب العالمين} في هذه السورة (54)، وجُماع معناها هو الخير الصالح الذي لا تبعة عليه في الآخرة فهو أحسن أحوال النعمة، ولذلك عبر في جانب المغضوب عليهم المستدرَجين بلفظ الحسنة} بصيغة الإفراد في قوله: {مكان السيئة الحسنة} [الأعراف: 95] وفي ج انب المؤمنين بالبركات مجموعة.
وقوله: {من السماء والأرض} مراد به حقيقته، لأن ما يناله الناس من الخيرات الدنيوية لا يعدو أن يكون ناشئاً من الأرض، وذلك معظم المنافع، أو من السماء مثل ماء المطر وشعاع الشمس وضوء القمر والنجوم والهواء والرياح الصالحة.
وقوله: {ولكن كذبوا} استثناء لنقيض شرط (لو) فإن التكذيب هو عدم الإيمان فهو قياس استثنائي.
وجملة: {فأخذناهم} متسببة على جملة: {ولكن كذبوا} وهو مثل نتيجة القياس، لأنه مساوي نقيضِ التالي، لأن أخذهم بما كسبوا فيه عدم فتح البركات عليهم.
وتقدم معنى الأخذ آنفاً في قوله تعالى: {فأخذناهم بغتة} [الأعراف: 95]، والمراد به أخذ الاستئصال.
والباء للسببية أي بسبب ما كسبوه من الكفر والعصيان..
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَآءِ وَالأرضِ} في ما يثيره الإيمان، وتتحرك به التقوى من البركات في انطلاقة الخير من فكر الإنسان وروحه وعمله، فتنمو الطاقات، وتتحرّك بالعطاء، وتنطلق بالخير، وتتحول الحياة من خلال ذلك إلى حركةٍ مسؤولةٍ في اتجاه الصلاح والإصلاح، وبذلك تتحرك بركات الأرض والسماء إلى نهر يتدفّق بكل ما يصلح الحياة والإنسان؛ لأن الإيمان والتقوى يعمّقان في الذات معنى المسؤولية التي تبتعد عن العبث والفساد والأنانية، فلا يبقى هناك إلا ما ينفع الناس، وبذلك تكون علاقة الإيمان والتقوى بالبركات علاقةً ترتبط بينابيع الخير التي يفجّرها عقل الإنسان وروحه وإرادته، في حركة المواقف والعلاقات والأعمال في الحياة. ويبقى للغيب دوره في هذا كله؛ فلله ألطافٌ خفيّةٌ من حيث لا نعرف، وله أرزاقٌ ونعم كثيرة يغدقها علينا من حيث لا نشعر. وهي أمورٌ لا تخضع لما نعرفه من قوانين الحياة العادية، بل هي غيبٌ ننتظره كلما أحسسنا بالرضى من الله ينساب في أعماقنا لطفاً وبركةً وإيماناً...
{فَأَخَذْنَهُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} في ما يستحقونه من عقاب الله، بسبب عصيانهم أوامره ونواهيه، وفي ما تنتجه أعمالهم ومواقفهم من نتائج سلبيّةٍ على الأوضاع العامّة في حياتهم، على أساس ارتباط النتائج بمقدّماتها الطبيعيّة. وبهذا نفهم ارتباط الأخذ الإلهي بالكسب السلبي للإنسان في مواقف المعصية بجانب الاستحقاق من جهة، وبطبيعة الأشياء من جهةٍ أخرى فيلتقي فيه الجانب الغيبي بالجانب المادّي من الحياة...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
التّقدم والعمران في ظل الإيمان والتقوى:
في الآيات الماضية وقع البحث فيما جرى لأقوام مثل قوم هود وصالح وشعيب ونوح ولوط على نحو الإجمال، وإن كانت تلك الآيات كافية لبيان النتائج المشحونة بالعبر في هذه القصص، ولكن الآيات الحاضرة تبيّن النتائج بصورة أكثر وضوحاً فتقول: (ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض)، أي لو أنّهم سلكوا سبيل الإيمان والتقوى، بدل الطغيان والتمرد وتكذيب آيات الله والظلم والفساد، لم يتخلصوا من غضب الله وعقوبته فحسب، بل لفتحت عليهم أبواب السماء والأرض.
ولكن للأسف تركوا الصراط المستقيم الذي هو طريق السعادة والرفاه والأمن، وكذبوا الأنبياء، وتجاهلوا برامجهم الإصلاحية، فعاقبناهم بسبب أعمالهم (ولكن كذّبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون). «البركات» جمع «بركة» وهذه الكلم تعني في الأصل «الثبات» والاستقرار، ويطلق على كل نعمة وموهبة تبقى ولا تزول، في مقابل الموجودات العارية عن البركة، والسريعة الفناء والزوال، والخالية عن الأثر...