التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي  
{وَلَوۡ أَنَّ أَهۡلَ ٱلۡقُرَىٰٓ ءَامَنُواْ وَٱتَّقَوۡاْ لَفَتَحۡنَا عَلَيۡهِم بَرَكَٰتٖ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلۡأَرۡضِ وَلَٰكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذۡنَٰهُم بِمَا كَانُواْ يَكۡسِبُونَ} (96)

ثم بين - سبحانه - أن سنته قد جرت بفتح أبواب خيراته للمحسنين ، وبإنزال نقمه على المكذبين الضالين فقال : { وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القرى آمَنُواْ واتقوا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِّنَ السمآء والأرض } .

البركات : جمع بركة : وهى ثبوت الخير الإلهى في الشىء ، وسمى بذلك لثبوت الخير فيه كما يثبت الماء في البركة .

قال الراغب : ولما كان الخير الإلهى يصدر من حيث لا يحس ، وعلى وجه لا يحصى ولا يحصر ، قيل لكل ما يشاهد منه زيادة غير محسوسة هو مبارك وفيه بركة " .

والمعنى : ولو أن أهل تلك القرى المهلكة آمنوا بما جاء به الرسل . واتقوا ما حرمه الله عليهم ، لآتيناهم بالخير من كل وجه . ولوسعنا عليه الرزق سعة عظيمة ، ولعاشوا حياتهم عيشة رغدة لا يشوبها كدر ، ولا يخالطها خوف .

وفى قوله : { فَتَحْنَا } استعارة تبعيه ، لأنه شبه تيسير البركات وتوسعتها عليهم بفتح الأبواب في سهولة التناول .

وقيل : المراد بالبركات السماوية المطر ، وبالبركات الأرضية النبات والثمار وجميع ما فيها من خيرات .

وقوله : { ولكن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } بيان لموقفهم الجحودى .

أى : ولكنهم لم يؤمنوا ولم يتقوا بل كذبوا الرسل الذين جاءوا لهدايتهم فكانت نتيجة تكذيبهم وتماديهم في الضلال أن عاقبناهم بالعقوبة التي تناسب جرمهم واكتاسبهم للمعاصى ، فتلك هى سنتنا التي لا تتخلف ، نفتح للمؤمنين المتقين أبواب الخيرات ، وننقتم من المكذبين الضالين بفنون العقوبات .

وقد يقال : إننا ننظر فنرى كثيرا من الكافرين والعصاة مفتوحا عليهم في الرزق والقوة والنفوذ وألوان الخير ، وترى كثيرا من المؤمنين مضيقاً عليهم في الرزق وفى غيره من وجوه النعم ، فأين هذا من سنة الله التي حكتها الآية الكريمة ؟

والجواب على ذلك أن الكافرين والعصاة قد يبسط لهم في الأرزاق وفى ألوان الخيرات بسطا كبيراً ، ولكن هذا على سبيل الاستدراج كما في قوله - تعالى - : { فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حتى إِذَا فَرِحُواْ بِمَآ أوتوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُّبْلِسُونَ } ومما لا شك فيه أن الابتلاء بالنعمة الذي مر ذكره في الآية السابقة { ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السيئة الحسنة حتى عَفَوْاْ } لا يقل خطراً عن الابتلاء بالشدة . فقد ابتلى الله كثيراً من الناس بألوان النعم فأشروا وبطروا ولم يشكروه عليها فأخذهم الله أخذ عزيز مقتدر .

وشتان بين نعم تساق لإنسان على سبيل الاستدراج في الشرور والآثام فتكون نقمة على صاحبها لأنه يعاقب عقابا شديداً بسبب سوء استعمالها ، وبين النعم التي وعد بها من يؤمنون ويتقون . إنها نعم مصونة عن المحق والسلب والخوف ، لأن أصحابها شكروا الله عليها .

واستعملوها فيما خلقت له ، فكانت النتيجة أن زادهم الله غنى على غناهم ، وأن منحهم الأمان والاطمئنان وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء .