{ وأنزلنا من المعصرات } قال مجاهد ، وقتادة ، ومقاتل ، والكلبي : يعني الرياح التي تعصر السحاب ، وهي رواية العوفي عن ابن عباس . قال الأزهري : هي الرياح ذوات الأعاصير ، وعلى التأويل تكون { من } بمعنى الباء يعني : بالمعصرات ، وذلك أن الريح تستدر المطر . وقال أبو العالية ، والربيع ، والضحاك : المعصرات هي السحاب وهي رواية الوالبي عن ابن عباس . قال الفراء : المعصرات السحائب التي تنحلب بالمطر ولا تمطر ، كالمرأة المعصر هي التي دنا حيضها ولم تحض . وقال ابن كيسان : هي المغيثات من قوله { فيه يغاث الناس وفيه يعصرون }( يوسف-49 ) . وقال الحسن ، وسعيد بن جبير ، وزيد بن أسلم ، ومقاتل بن حيان : { من المعصرات } أي من السماوات . { ماءً ثجاجاً } أي صباباً ، وقال مجاهد : مدراراً . وقال قتادة : متتابعاً يتلو بعضه بعضاً . وقال ابن زيد : كثيراً .
وقوله : { وَأَنزلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا } قال العوفي ، عن ابن عباس : { الْمُعْصِرَاتِ } الريح .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد ، حدثنا أبو داود الحَفَري{[29645]} عن سفيان ، عن الأعمش ، عن المِنْهَال ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : { وَأَنزلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ } قال : الرياح . وكذا قال عكرمة ، ومجاهد ، وقتادة ، ومقاتل ، والكلبي ، وزيد بن أسلم : وابنه عبد الرحمن : إنها الرياح . ومعنى هذا القول أنها تستدر المطر من السحاب .
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { مِنَ الْمُعْصِرَاتِ } أي : من السحاب . وكذا قال عكرمة أيضا ، وأبو العالية ، والضحاك ، والحسن ، والربيع بن أنس ، والثوري . واختاره ابن جرير .
وقال الفراء : هي السحاب التي تَتَحَلَّب بالمطر ولم تُمطر بعدُ ، كما يقال امرأة معصر ، إذا دنا حيضها ولم تحض .
وعن الحسن ، وقتادة : { مِنَ الْمُعْصِرَاتِ } يعني : السموات . وهذا قول غريب .
والأظهر أن المراد بالمعصرات : السحاب ، كما قال [ الله ]{[29646]} تعالى : { اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ } [ الروم : 48 ] أي : من بينه .
وقوله : { مَاءً ثَجَّاجًا } قال مجاهد ، وقتادة ، والربيع بن أنس : { ثَجَّاجًا } منصبا . وقال الثوري : متتابعًا . وقال ابن زيد : كثيرا .
قال ابن جرير : ولا يعرف في كلام العرب في صفة الكثرة الثج ، وإنما الثج : الصب المتتابع . ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم : " أفضلُ الحجّ العجّ والثجّ " . يعني : صَبّ دماء البُدْن{[29647]} . هكذا قال . قلت : وفي حديث المستحاضة حين قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أنعت لك الكُرسُفَ " - يعني : أن تحتشي بالقطن - : قالت{[29648]} : يا رسول الله ، هو أكثر من ذلك ، إنما أثج ثجًا{[29649]} . وهذا فيه دَلالة على استعمال الثَّج في الصبّ المتتابع الكثير ، والله أعلم .
واختلف الناس في { المعصرات } ، فقال الحسن بن أبي الحسن وأبيّ بن كعب وابن جبير وزيد بن أسلم ومقاتل وقتادة : هي السموات ، وقال ابن عباس وأبو العالية والربيع والضحاك : { المعصرات } السحاب القاطرة ، وهو مأخوذ من العصر ، لأن السحاب ينعصر فيخرج منه الماء وهذا قول الجمهور وبه فسر عبيد الله بن الحسن بن محمد العنبري القاضي بيت حسان : [ الكامل ]
كلتاهما حلب العصير{[11565]} . . . وقال بعض من سميت هي السحاب التي فيها الماء تمطر كالمرأة المعصر وهي التي دنا حيضها ولم تحض بعد ، وقال ابن الكيسان : قيل : للسحاب معصرات من حيث تغيث فهي من المعصرة ومنه قوله تعالى : { وفيه يعصرون }{[11566]} [ يوسف : 49 ] قال ابن عباس ومجاهد وقتادة : { المعصرات } الرياح ، لأنها تعصر السحاب ، وقرأ ابن الزبير وابن عباس والفضل بن عباس وقتادة وعكرمة : «وأنزلنا بالمعصرات » فهذا يقول أنه أراد الرياح ، و «الثجاج » : السريع الاندفاع كما يندفع الدم عن عروق الذبيحة ، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم وقد قيل له : ما أفضل الحج ؟ قال : «العج والثج »{[11567]} أراد التضرع إلى الله بالدعاء الجهير وذبح الهدي .
استدلال بحالة أخرى من الأحوال التي أودعها الله تعالى في نظام الموجودات وجعلها منشأً شبَيهاً بحياة بعد شبيهٍ بموت أو اقتراب منه ومَنْشأ تَخلق موجودات من ذرات دقيقة . وتلك حالة إنزال ماء المطر من الأسحبة على الأرض فتنبت الأرض به سنابل حبّ وشجراً ، وكلأً ، وتلك كلها فيها حياة قريبة من حياة الإِنسان والحيوان وهي حياة النمَاء فيكون ذلك دليلاً للناس على تصور حالة البعث بعد الموت بدليل من التقريب الدال على إمكانه حتى تضمحل من نفوس المكابرين شُبَهُ إحالة البعث .
وهذا الذي أشير إليه هنا قد صرح به في مواضع من القرآن كقوله تعالى : { ونزَّلنا من السماء ماء مباركاً فأنبتنا به جنات وحب الحصيد والنخل باسقات لها طلع نضيد رزقاً للعباد وأحيينا به بلدة ميتاً كذلك الخروج } [ ق : 9 11 ] ففي الآية استدلالان : استدلال بإنزال الماء من السحاب ، واستدلال بالإِنبات ، وفي هذا أيضاً منّة على المُعْرضِين عن النظر في دلائل صنع الله التي هي دواع لشكر المنعم بها لما فيها من منافع للناس من رزقهم ورزق أنعامهم ، ومن تنعمهم وجمال مَرَائيهم فإنهم لو شكروا المنعم بها لكانوا عندما يَبلغهم عنه أنه يدعوهم إلى النظر في الأدلة مستعدين للنظر ، بتوقع أن تكون الدعوة البالغة إليهم صَادقة العَزو إلى الله فما خفيت عنهم الدلالة .
ومناسبة الانتقال من ذكر السماوات إلى ذكر السحاب والمطر قوية .
والمعصرات : بضم الميم وكسر الصاد السحابات التي تحمل ماء المطر واحدتها مُعصرةِ اسم فاعل من : أعْصَرَتْ السحابةُ ، إذا آن لها أن تَعْصِر ، أي تُنزل إنزالاً شبيهاً بالعَصْر . فهمزة ( أعصر ) تفيد معنى الحينونة وهو استعمال موجود وتسمَّى همزة التهيئة كما في قولهم : أجَزَّ الزرعُ ، إذا حان له أن يُجزّ ( بزاي في آخره ) وأُحصد إذا حان وقت حصاده . ويظهر من كلام صاحب « الكشاف » أن همزة الحينونة تفيد معنى التهيُّؤ لقبول الفعل وتفيد معنى التهيُّؤ لإِصدار الفعل فإنه ذكر : أعْصَرتْ الجاريةُ ، أي حان وقت أن تصير تحيض ، وذكر ابن قتيبة في « أدب الكاتب » : أركَبَ المُهْرُ ، إذا حان أن يركب ، وأقطفَ الكَرْمُ ، إذا حان أن يُقطف . ثم ذكر : أقْطَفَ القومُ : حان أن يَقطِفوا كُرومهم ، وأنتجت الخيل : حان وقت نَتاجها .
وفي تفسير ابن عطية عند قوله تعالى : { ألم تر أن اللَّه يزجي سحاباً } الآية من سورة النور ( 43 ) ، والعرب تقول : إن الله تعالى إذا جعل السحاب ركاماً جاء بالريح عَصَر بعضُه بعضاً فيخرج الودق منه ، ومن ذلك قوله : وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجاً } ومن ذلك قول حسان :
كلتاهما حَلَب العَصير فعَاطني *** بزُجاجة أرخاهما للمفصل
أراد حَسَّانُ الخمرَ والماءَ الذي مُزجت به ، أي هذه من عصير العنب وهذه من عصير السحاب ، فسر هذا التفسير قاضي البصرة عبيد الله بن الحسن العنبري{[440]} للقومَ الذين حلف صاحبهم بالطلاق أن يسأل القاضي عن تفسير بيت حسان ا ه .
والثّجاج : المُنْصَبُّ بقوة وهو فَعَّال من ثَجّ القاصر إذا انصب ، يقال : ثجّ الماءُ ، إذا انصبّ بقوة ، فهو فِعل قاصر . وقد يسند الثجُّ إلى السحاب ، يقال : ثج السحاب يَثُجّ بضم الثاء ، إذا صَبَّ الماءَ ، فهو حينئذ فعل متعدّ .
ووصف الماء هنا بالثّجاج للامتنان .
وقد بينت حكمة إنزال المطر من السحاب بأن الله جعله لإنبات النبات من الأرض جمعاً بين الامتنان والإِيماء إلى دليل تقريب البعث ليحصل إقرارهم بالبعث وشكر الصّانع .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم ذكر نعمه فقال: {وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجا} يعني مطرا كثيرا منصبا يتبع بعضه بعضا، وذلك أن الله عز وجل يرسل الرياح فتأخذ الماء من سماء الدنيا من بحر الأرزاق، ولا تقوم الساعة ما دام به قطرة ماء، فذلك قوله: {وفي السماء رزقكم وما توعدون} [الذاريات:22] قال تجيء الريح فتثير سحابا فتلحقه، ثم تمطر وتخرج الريح والمطر جميعا من خلل السحاب...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
اختلف أهل التأويل في المعنيّ بالمعصِرات؛
فقال بعضهم: عُنِي بها الرياح التي تعصر في هبوبها...
وقال آخرون: بل هي السحاب التي تتحلب بالمطر ولمّا تمطر، كالمرأة المعصر التي قد دنا أوان حيضها ولم تحض...
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله أخبر أنه أنزل من المعصِرات، وهي التي قد تحلبت بالماء من السحاب ماء. وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب، لأن القول في ذلك على أحد الأقوال الثلاثة التي ذكرت، والرياح لا ماء فيها، فينزل منها، وإنما ينزل بها، وكان يصحّ أن تكون الرياح، ولو كانت القراءة: «وَأنْزَلْنا بالمُعْصِرَاتِ» فلما كانت القراءة:"منَ المُعْصِرَاتِ "علم أن المعنيّ بذلك ما وصفت...
وأما قوله: "مَاءً ثَجّاجا" يقول: ماء منصبا يتبع بعضه بعضا، كثجّ دماء البدن، وذلك سفكها...
وقال بعضهم: عُنِي بالثجّاج: الكثير...ولا يُعرف في كلام العرب من صفة الكثرة الثجّ، وإنما الثجّ: الصبّ المتتابع...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
وقال الزجاج: المعصر، هو الذي قد أتى وقت إرسال القطر منه... ثم في إنزال الماء من المعصرات تذكير النعم والقدرة والحكمة، وكل وجه من هذه الأوجه الثلاثة يوجب القول بالبعث. فأما وجه تذكير النعم، وهو أن القطر ينزل من السماء متتابعا، ثم الله تعالى بلطفه، يمنع اتصال بعض ببعض والتصاقه، ويرسل كل قطرة إلى الأرض بحيالها، وينزل بعضها على إثر بعض، لينتفع به. ولو التصق بعضها، واتصل لم يقم لها شيء، وكانت تصير سببا للتعذيب والإهلاك. فبفضله ورحمته أنزلها متتابعة لينتفع بها الخلق، ويتمتعوا بها...
وفيه أن تدبير السماء والأرض والهوي يرجع إلى الواحد القهار؛ إذ لا يتهيأ لأحد أن يمنع القطر المرسل من السماء عن الوصول إلى الموضع الذي أمر أن ينتهي إليه. والثجاج القطر المتتابع بعضه على إثر بعض، والثلج الصب والإراقة...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
المعصرات: السحائب إذا أعصرت، أي: شارفت أن تعصرها الرياح فتمطر، كقولك: أجز الزرع، إذا حان له أن يجز. ومنه: أعصرت الجارية إذا دنت أن تحيض. وقرأ عكرمة: «بالمعصرات»، وفيه وجهان: أن تراد الرياح التي حان لها أن تعصر السحاب، وأن تراد السحائب؛ لأنه إذا كان الإنزال منها فهو بها، كما تقول: أعطى من يده درهما، وأعطى بيده، وعن مجاهد: المعصرات الرياح ذوات الأعاصير. وعن الحسن وقتادة: هي السموات. وتأويله: أن الماء ينزل من السماء إلى السحاب، فكأنّ السموات يعصرن، أي: يحملن على العصر ويمكنّ منه.
فإن قلت: فما وجه من قرأ. {مِنَ المعصرات} وفسرها بالرياح ذوات الأعاصير، والمطر لا ينزل من الرياح؟ قلت: الرياح هي التي تنشئ السحاب وتدرّ أخلافه فصحّ أن تجعل مبدأ للإنزال؛ وقد جاء: أنّ الله تعالى يبعث الرياح فتحمل الماء من السماء إلى السحاب، فإن صحّ ذلك فالإنزال منها ظاهر،
فإن قلت: ذكر ابن كيسان أنه جعل المعصرات بمعنى المغيثات، والعاصر هو المغيث لا المعصر. يقال: عصره فاعتصر. قلت: وجهه أن يريد اللاتي أعصرن، أي حان لها أن تعصر، أي: تغيث {ثَجَّاجاً} منصباً بكثرة يقال: ثجه وثج نفسه وفي الحديث: "أفضل الحج: العجّ والثجّ " أي رفع الصوت بالتلبية، وصب دماء الهدي. وكان ابن عباس مثجاً يسيل غرباً، يعني أنه يثج الكلام ثجا في خطبته. وقرأ الأعرج: «ثجاجاً» ومثاجج الماء: مصابه، والماء ينثجج في الوادي.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما ذكر ما يمحق الرطوبة بحرارته، أتبعه ما يطفئ الحرارة برطوبته وبرودته فينشأ عنه المأكل والمشرب، لتي بها تمام الحياة ويكون تولدها من الظرف بالمهاد والسقف، وجعل ذلك أشبه شيء بما يتولد بين الزوجين من الأولاد، فالسماء كالزوج والأرض كالمرأة، والماء كالمني، والنبات من النجم والشجر كالأولاد فقال: {وأنزلنا} أي مما يعجز غيرنا {من المعصرات} أي السحائب التي أثقلت بالماء فشارفت أن يعصرها الرياح فتمطر كما حصد الزرع -إذا حان له أن يحصد، قال الفراء: المعصر، السحابة التي تتحلى بالمطر ولا تمطر كالمرأة المعصرة وهي التي دنا حيضها ولم تحض...