قوله تعالى : { فقلنا اضربوه } . يعني القتيل .
قوله تعالى : { ببعضها } . أي ببعض البقرة ، واختلفوا في ذلك البعض .
قال ابن عباس رضي الله عنه وأكثر المفسرين : ضربوه بالعظم الذي يلي الغضروف وهو المقتل ، وقال مجاهد و سعيد بن جبير : بعجب الذنب لأنه أول ما يخلق وآخر ما يبلى ، ويركب عليه الخلق ثانيا ، وهو البعث ، وقال الضحاك : بلسانها ، وقال الحسين بن الفضل : هذا أدل بها لأنه آلة الكلام ، وقال الكلبي وعكرمة : بفخذها الأيمن ، وقيل : بعضو منها لا بعينه ، ففعلوا ذلك فقام القتيل حياً بإذن الله تعالى وأوداجه ، أي عروق العنق ، تشخب دماً وقال : قتلني فلان ، ثم سقط ومات مكانه ، فحرم قاتله الميراث ، وفي الخبر : " ما ورث قاتل بعد صاحب البقرة " وفيه إضمار تقديره : فضرب فحيي .
قوله تعالى : { كذلك يحيي الله الموتى } . كما أحيا عاميل .
قوله تعالى : { ويريكم آياته لعلكم تعقلون } . قيل تمنعون أنفسكم من المعاصي .
أما حكم هذه المسألة إذا وجد في الإسلام : قتيل في موضع ولا يعرف قاتله ، فإن كان ثم لوث على إنسان ، واللوث : أن يغلب على القلب صدق المدعي ، بأن اجتمع جماعة في بيت أو صحراء فتفرقوا عن قتيل يغلب على القلب أن القاتل فيهم ، أو وجد قتيل في محلة أو قرية كلهم أعداء للقتيل لا يخالطهم غيرهم ، فيغلب على القلب أنهم قتلوه ، فادعى الولي على بعضهم ، يحلف المدعي خمسين يميناً على من يدعي عليه ، وإن كان الأولياء جماعة توزع الأيمان عليهم ، ثم بعدما حلفوا أخذوا الدية من عاقلة المدعى عليه إن ادعوا قتل خطأ ، وإن ادعوا قتل عمد فمن ماله ، ولا قود على قول الأكثرين وذهب بعضهم إلى وجوب القود ، وهو قول عمر بن عبد العزيز وبه قال مالك وأحمد ، وإن لم يكن على المدعى عليه لوث فالقول قول المدعى عليه مع يمينه ، ثم هل يحلف يميناً واحدة أم خمسين يميناً فيه قولان أحدهما : يميناً واحدة كما في سائر الدعاوي والثاني : يحلف خمسين يميناً تغليظاً لأمر الدم ، وعند أبي حنيفة رضي الله عنه : لا حكم للوث ولا يبدأ بيمين المدعي وقال : إذا وجد قتيل في محلة يختار الإمام خمسين رجلاً من صلحاء أهلها فيحلفهم أنهم ما قتلوه ولا عرفوا له قاتلاً ، ثم يأخذ الدية من سكانها ، والدليل على أن البداءة بيمين المدعي عند وجود اللوث : ما أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب ، أنا عبد العزيز بن أحمد الخلال ، أنا أبو العباس محمد بن يعقوب الأصم ، أنا الربيع ، أنا الشافعي ، أنا عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي ، عن يحيى بن سعيد ، عن بشير ابن يسار ، عن سهل بن أبي حثمة ، أن عبد الله بن سهل ومحيصة بن مسعود ، خرجا إلى خيبر ، فتفرقا لحاجتهما ، فقتل عبد الله بن سهم ، فانطلق هو وعبد الرحمن أخو المقتول وحويصة بن مسعود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكروا له قتل عبد الله ابن سهل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " تحلفون خمسين يميناً وتستحقون دم صاحبكم أو قاتلكم فقالوا : يا رسول الله لم نشهد ولم نحضر ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فتبرئكم يهود بخمسين يميناً فقالوا : يا رسول الله كيف نقبل أيمان قوم كفار ؟ فعزم النبي صلى الله عليه وسلم عقله من عنده وفي لفظ آخر فزعم أن النبي صلى الله عليه وسلم عقله من عنده " قال بشير بن يسار : قال سهل لقد ركضتني فريضة من تلك الفرائض في مربد لنا ، وفي رواية : لقد ركضتني ناقة حمراء من تلك الفرائض في مربد لنا . وجه الدليل من الخبر : أن النبي صلى الله عليه وسلم بدأ بأيمان المدعين لتقوي جانبهم باللوث ، وهو أن عبد الله بن سهل وجد قتيلاً في خيبر ، وكانت العداوة ظاهرة بين الأنصار وأهل خيبر ، وكان يغلب على القلب أنهم قتلوه ، واليمين أبداً تكون حجة لمن يقوى جانبه ، وعند عدم اللوث يقوى جانب المدعى عليه من حيث أن الأصل براءة ذمته وكان القول قوله مع يمينه .
{ فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا } هذا البعض أيُّ شيء كان من أعضاء هذه البقرة فالمعجزة حاصلة به .
وخرق العادة به كائن ، وقد كان معينا في نفس الأمر ، فلو كان في تعيينه لنا فائدة تعود علينا في أمر الدين أو الدنيا لبينه الله تعالى لنا ، ولكن أبهمه ، ولم يجئ من طريق صحيح عن معصوم بيانه{[1996]} فنحن نبهمه كما أبهمه الله .
ولهذا قال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن سنان ، حدثنا عفَّان بن مسلم ، حدثنا عبد الواحد بن زياد حدثنا الأعمش ، عن المنهال بن عمرو ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : إن أصحاب بقرة بني إسرائيل طلبوها أربعين سنة حتى وجدوها عند رجل في بقر له ، وكانت بقرة تعجبه ، قال : فجعلوا يعطونه بها فيأبى ، حتى أعطوه ملء مَسْكها دنانير ، فذبحوها ، فضربوه - يعني القتيل - بعضو منها ، فقام تَشْخُب أوداجه دمًا [ فسألوه ]{[1997]} فقالوا له : من قتلك ؟ قال :{[1998]} قتلني فلان{[1999]} .
وكذا قال الحسن ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم : إنه ضرب ببعضها .
وفي رواية عن ابن عباس : إنهم ضربوه بالعظم الذي يلي الغضروف .
وقال عبد الرزاق : أنبأنا مَعْمَر ، قال : قال أيوب ، عن ابن سيرين ، عن عبيدة : ضربوا القتيل ببعض لحمها . وقال معمر : قال قتادة : فضربوه بلحم فخذها فعاش ، فقال : قتلني فلان .
وقال أبو أسامة ، عن النضر بن عربي ، عن عكرمة : { فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا } [ قال ]{[2000]} فضرب بفخذها فقام ، فقال : قتلني فلان
قال ابن أبي حاتم : وروي عن مجاهد ، وقتادة ، نحو ذلك .
وقال السدي : فضربوه بالبَضْعة التي بين الكتفين فعاش ، فسألوه ، فقال : قتلني ابن أخي .
وقال أبو العالية : أمرهم موسى ، عليه السلام ، أن يأخذوا عظمًا من عظامها ، فيضربوا به القتيل ، ففعلوا ، فرجع إليه روحه ، فسمى لهم قاتله ثم عاد ميتا كما كان .
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : فضربوه ببعض آرابها [ وقيل : بلسانها ، وقيل : بعجب ذنبها ]{[2001]} .
وقوله : { كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى } أي : فضربوه فحيى . ونَبَّه تعالى على قدرته وإحيائه الموتى بما شاهدوه من أمر القتيل : جعل تبارك وتعالى ذلك الصنع حجة لهم على المعاد ، وفاصلا ما كان بينهم من الخصومة والفساد{[2002]} ، والله تعالى قد ذكر في هذه السورة ما خلقه في{[2003]} إحياء الموتى ، في خمسة مواضع : { ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ } [ البقرة : 56 ] . وهذه القصة ، وقصة الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت ، وقصة الذي مرَّ على قرية وهي خاوية على عروشها ، وقصة إبراهيم والطيور الأربعة .
ونبه تعالى بإحياء الأرض بعد موتها على إعادة الأجسام بعد صيرورتها{[2004]} رميما ، كما قال أبو داود الطيالسي : حدثنا شعبة ، أخبرني يعلى بن عطاء ، قال : سمعت وَكِيع بن عُدُس ، يحدث عن أبي رَزِين العُقَيلي ، قال : قلت : يا رسول الله ، كيف يحيي الله الموتى ؟ قال : " أما مررت بواد مُمْحِل ، ثم مررت به خَضِرًا ؟ " قال : بلى . قال : " كذلك النشور " . أو قال : " كذلك يحيي الله الموتى " {[2005]} . وشاهد هذا قوله تعالى : { وَآيَةٌ لَهُمُ الأرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُون لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ } [ يس : 33 - 35 ] .
مسألة : استدل لمذهب مالك في كون قول الجريح : فلان قتلني لوثًا بهذه القصة ؛ لأن القتيل لما حيي سئل عمن قتله فقال : قتلني فلان ، فكان ذلك مقبولا منه ؛ لأنه لا يخبر حينئذ إلا بالحق ، ولا يتهم والحالة هذه ، ورجحوا ذلك بحديث أنس : أن يهوديًا قتل جارية على أوضاح لها ، فرضخ رأسها بين حجرين فقيل : من فعل بك هذا ؟ أفلان ؟ أفلان ؟ حتى ذكر اليهودي ، فأومأت برأسها ، فأخذ اليهودي ، فلم يزل به حتى اعترف ، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرد رأسه بين حجرين{[2006]} وعند مالك : إذا كان لوثًا حلف أولياء القتيل قسامة ، وخالف الجمهور في ذلك ولم يجعلوا قول القتيل في ذلك لوثًا .
فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ( 73 )
وقوله : { اضربوه ببعضها } آية من الله تعالى على يدي موسى عليه السلام أن أمرهم أن يضربوا ببعض البقرة القتيل فيحيى ويخبر بقاتله ، فقيل : ضربوه ، وقيل : ضربوا قبره ، لأن ابن عباس ذكر أن أمر القتيل وقع قبل جواز البحر ، وأنهم داموا في طلب البقرة أربعين سنة ، وقال القرظي : لقد أمروا بطلبها وما هي في صلب ولا رحم بعد ، وقال السدي : ضرب باللحمة التي بين الكتفين( {[801]} ) ، وقال مجاهد وقتادة وعبيدة السلماني : ضرب بالفخذ ، وقيل : ضرب باللسان ، وقيل : بالذنب ، وقال أبو العالية : بعظم من عظامها .
وقوله تعالى : { كذلك يحيي الله الموتى } الآية ، الإشارة ب { كذلك } إلى الإحياء الذي تضمنه قصص الآية ، إذ في الكلام حذف ، تقديره : فضربوه فحيي ، وفي هذه الآية حض على العبر ، ودلالة على البعث في الآخرة : وظاهرها أنها خطاب لبني إسرائيل ، حينئذ حكي لمحمد صلى الله عليه وسلم ليعتبر به إلى يوم القيامة ، وذهب الطبري إلى أنها خطاب لمعاصري محمد صلى الله عليه وسلم ، وأنها مقطوعة من قوله تعالى : { اضربوه ببعضها }( {[802]} ) ، وروي أن هذا القتيل لما حيي وأخبر بقاتله عاد ميتاً كما كان ، واستدل مالك رحمه الله بهذه النازلة على تجويز قول القتيل( {[803]} ) وأن تقع معه القسامة .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{يحيي الله الموتى ويريكم آياته}، فكان ذلك من آياته وعجائبه، {لعلكم} يقول: لكي {تعقلون} فتعتبروا في البعث، وإنما فعل الله ذلك بهم، لأنه كان في بني إسرائيل من يشك في البعث، فأراد الله عز وجل أن يعلمهم أنه قادر على أن يبعث الموتى، وذلك قوله سبحانه، {لعلكم تعقلون} فتعتبروا في البعث...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يعني جل ذكره بقوله: فَقُلْنا لقوم موسى الذين ادّارءوا في القتيل الذي قد تقدم وصفنا أمره: اضربوا القتيل. والهاء التي في قوله: اضْرِبُوهُ من ذكر القتيل ببعضها أي ببعض البقرة التي أمرهم الله بذبحها فذبحوها.
ثم اختلف العلماء في البعض الذي ضرب به القتيل من البقرة وأيّ عضو كان ذلك منها، فقال بعضهم: ضرب بفخذ البقرة القتيل... فقام حيا، فقال: قتلني فلان ثم عاد في ميتته.
وقال آخرون: الذي ضرب به منها هو البَضْعة التي بين الكتفين... وقال آخرون: الذي أمروا أن يضربوه به منها عظم من عظامها... وقال آخرون: ضربوا الميت ببعض آرابها.
والصواب من القول في تأويل قوله عندنا:"فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا" أن يقال: أمرهم الله جل ثناؤه أن يضربوا القتيل ببعض البقرة ليحيا المضروب. ولا دلالة في الآية ولا خبر تقوم به حجة على أيّ أبعاضها التي أمر القوم أن يضربوا القتيل به. وجائز أن يكون الذي أمروا أن يضربوه به هو الفخذ، وجائز أن يكون ذلك الذنب وغضروف الكتف وغير ذلك من أبعاضها. ولا يضرّ الجهل بأيّ ذلك ضربوا القتيل، ولا ينفع العلم به مع الإقرار بأن القوم قد ضربوا القتيل ببعض البقرة بعد ذبحها، فأحياه الله.
فإن قال قائل: وما كان معنى الأمر بضرب القتيل ببعضها؟ قيل: ليحيا فينبئ نبي الله موسى صلى الله عليه وسلم والذين ادّارءوا فيه من قاتله.
فإن قال قائل: وأين الخبر عن أن الله جل ثناؤه أمرهم بذلك لذلك؟ قيل: ترك ذلك اكتفاءً بدلالة ما ذكر من الكلام الدال عليه نحو الذي ذكرنا من نظائر ذلك فيما مضى. ومعنى الكلام: فقلنا: اضربوه ببعضها ليحيا، فضربوه فحيي كما قال جل ثناؤه: "أن اضْرِبْ بِعَصَاكَ البَحْرَ فَانْفَلَقَ "والمعنى: فضرب فانفلق. يدل على ذلك قوله: "كَذَلِكَ يُحْيِي اللّهُ المَوْتَى ويُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلّكُمْ تَعْقِلُونَ".
" كَذَلِكَ يُحْيِي اللّهُ المَوْتَى": مخاطبة من الله عباده المؤمنين، واحتجاج منه على المشركين المكذّبين بالبعث، وأمرهم بالاعتبار بما كان منه جل ثناؤه من إحياء قتيل بني إسرائيل بعد مماته في الدنيا، فقال لهم تعالى ذكره: أيها المكذّبون بالبعث بعد الممات، اعتبروا بإحيائي هذا القتيل بعد مماته، فإني كما أحييته في الدنيا فكذلك أحيي الموتى بعد مماتهم، فأبعثهم يوم البعث، فإنما احتجّ جل ذكره بذلك على مشركي العرب وهم قوم أُمّيون لا كتاب لهم، لأن الذين كانوا يعلمون علم ذلك من بني إسرائيل كانوا بين أظهرهم وفيهم نزلت هذه الآيات، فأخبرهم جل ذكره بذلك ليتعرّفوا علم من قبلهم.
" وَيُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلّكُمْ تَعْقِلُونَ": ويريكم الله أيها الكافرون المكذّبون بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به من عند الله من آياته، وآياته: أعلامه وحججه الدالة على نبوّته لتعقلوا وتفهموا أنه محقّ صادق فتؤمنوا به وتتبعوه.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
فإن قلت: هلا أحياه ابتداء؟ ولم شرط في إحيائه ذبح البقرة وضربه ببعضها؟ قلت: في الأسباب والشروط حكم وفوائد. وإنما شرط ذلك لما في ذبح البقرة من التقرّب وأداء التكاليف واكتساب الثواب والإشعار بحسن تقديم القربة على الطلب، وما في التشديد عليهم لتشديدهم من اللطف لهم، ولآخرين في ترك التشديد والمسارعة إلى امتثال أوامر الله تعالى وارتسامها على الفور، من غير تفتيش وتكثير سؤال، ونفع اليتيم بالتجارة الرابحة، والدلالة على بركة البرّ بالوالدين، والشفقة على الأولاد، وتجهيل الهازئ بما لا يعلم كنهه، ولا يطلع على حقيقته من كلام الحكماء، وبيان أنّ من حق المتقرّب إلى ربه أن يتنوّق في اختيار ما يتقرّب به، وأن يختاره فتيّ السنِّ غير قحم ولا ضرع، حسن اللون برياً من العيوب يونق من ينظر إليه، وأن يغالى بثمنه، كما يروى عن عمر رضي الله عنه: أنه ضحى بنجيبة بثلاثمائة دينار، وأنّ الزيادة في الخطاب نسخ له، وأن النسخ قبل الفعل جائز وإن لم يجز قبل وقت الفعل وإمكانه لأدائه إلى البداء، وليعلم بما أمر من مسّ الميت بالميت وحصول الحياة عقيبه أن المؤثر هو المسبب لا الأسباب، لأن الموتين الحاصلين في الجسمين لا يعقل أن تتولد منهما حياة.
فإن قلت: فما للقصة لم تقص على ترتيبها، وكان حقها أن يقدّم ذكر القتيل والضرب ببعض البقرة على الأمر بذبحها، وأن يقال: وإذا قتلتم نفساً فادّارأتم فيها فقلنا: اذبحوا بقرة واضربوه ببعضها؟ قلت: كل ما قصّ من قصص بني إسرائيل إنما قصّ تعديداً لما وجد منهم من الجنايات، وتقريعاً لهم عليها، ولمّا جدّد فيهم من الآيات العظام. وهاتان قصتان كل واحدة منهما مستقلة بنوع من التقريع وإن كانتا متصلتين متحدتين، فالأولى لتقريعهم على الاستهزاء وترك المسارعة إلى الامتثال وما يتبع ذلك. والثانية للتقريع على قتل النفس المحرّمة وما يتبعه من الآية العظيمة. وإنما قدمت قصة الأمر بذبح البقرة على ذكر القتيل لأنه لو عمل على عكسه لكانت قصة واحدة، ولذهب الغرض في تثنية التقريع. ولقد روعيت نكتة بعدما استؤنفت الثانية استئناف قصة برأسها أن وصلت بالأولى، دلالة على اتحادهما بضمير البقرة لا باسمها الصريح في قوله: {اضربوه بِبَعْضِهَا} حتى تبين أنهما قصتان فيما يرجع إلى التقريع وتثنيتهِ بإخراج الثانية مخرج الاستئناف مع تأخيرها، وأنها قصة واحدة بالضمير الراجع إلى البقرة.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
وقوله تعالى: {كذلك يحيي الله الموتى} الآية، الإشارة ب {كذلك} إلى الإحياء الذي تضمنه قصص الآية، إذ في الكلام حذف، تقديره: فضربوه فحيي، وفي هذه الآية حض على العبر، ودلالة على البعث في الآخرة: وظاهرها أنها خطاب لبني إسرائيل، حينئذ حكي لمحمد صلى الله عليه وسلم ليعتبر به إلى يوم القيامة، وذهب الطبري إلى أنها خطاب لمعاصري محمد صلى الله عليه وسلم، وأنها مقطوعة من قوله تعالى: {اضربوه ببعضها}، وروي أن هذا القتيل لما حيي وأخبر بقاتله عاد ميتاً كما كان، واستدل مالك رحمه الله بهذه النازلة على تجويز قول القتيل وأن تقع معه القسامة.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
جعل تبارك وتعالى ذلك الصنع حجة لهم على المعاد، وفاصلا ما كان بينهم من الخصومة والفساد، والله تعالى قد ذكر في هذه السورة ما خلقه في إحياء الموتى، في خمسة مواضع: {ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ} [البقرة: 56]. وهذه القصة، وقصة الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت، وقصة الذي مرَّ على قرية وهي خاوية على عروشها، وقصة إبراهيم والطيور الأربعة. ونبه تعالى بإحياء الأرض بعد موتها على إعادة الأجسام بعد صيرورتها رميما...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ولكن. فيم كانت هذه الوسيلة، والله قادر على أن يحيي الموتى بلا وسيلة؟ ثم ما مناسبة البقرة المذبوحة مع القتيل المبعوث؟
إن البقر يذبح قربانا كما كانت عادة بني إسرائيل.. وبضعة من جسد ذبيح ترد بها الحياة إلى جسد قتيل. وما في هذه البضعة حياة ولا قدرة على الإحياء.. إنما هي مجرد وسيلة ظاهرة تكشف لهم عن قدرة الله، التي لا يعرف البشر كيف تعمل. فهم يشاهدون آثارها ولا يدركون كنهها ولا طريقتها في العمل و: (كذلك يحيي الله الموتى).. كذلك بمثل هذا الذي ترونه واقعا ولا تدرون كيف وقع؛ وبمثل هذا اليسر الذي لا مشقة فيه ولا عسر.
إن المسافة بين طبيعة الموت وطبيعة الحياة مسافة هائلة تدير الرؤوس. ولكنها في حساب القدرة الإلهية أمر يسير.. كيف؟.. هذا ما لا أحد يدريه. وما لا يمكن لأحد إدراكه.. إن إدراك الماهية والكيفية هنا سر من أسرار الألوهية، لا سبيل إليه في عالم الفانين! وإن يكن في طوق العقل البشري إدراك دلالته والاتعاظ بها: (ويريكم آياته لعلكم تعقلون)..
وأخيرا نجيء إلى جمال الأداء وتناسقه مع السياق..
هذه قصة قصيرة نبدأها، فإذا نحن أمام مجهول لا نعرف ما وراءه. نحن لا نعرف في مبدأ عرض القصة لماذا يأمر الله بني إسرائيل أن يذبحوا بقرة، كما أن بني إسرائيل إذ ذاك لم يعرفوا، وفي هذا اختبار لمدى الطاعة والاستجابة والتسليم.
ثم تتابع الحوار في عرض القصة بين موسى وقومه، فلا نرى الحوار ينقطع ليثبت ما دار بين موسى وربه؛ على حين أنهم كانوا في كل مرة يطلبون منه أن يسأل ربه، فكان يسأله، ثم يعود إليهم بالجواب.. ولكن سياق القصة لا يقول:إنه سأل ربه ولا إن ربه أجابه.. إن هذا السكوت هو اللائق بعظمة الله، التي لا يجوز أن تكون في طريق اللجاجة التي يزاولها بنو إسرائيل!
ثم تنتهي إلى المباغتة في الخاتمة -كما بوغت بها بنو إسرائيل- انتفاض الميت مبعوثا ناطقا، على ضربة من بعض جسد لبقرة بكماء مذبوحة، ليس فيها من حياة ولا مادة حياة!
ومن ثم يلتقي جمال الأداء التعبيري بحكمة السياق الموضوعية في قصة قصيرة من القصص القرآني الجميل.