اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{فَقُلۡنَا ٱضۡرِبُوهُ بِبَعۡضِهَاۚ كَذَٰلِكَ يُحۡيِ ٱللَّهُ ٱلۡمَوۡتَىٰ وَيُرِيكُمۡ ءَايَٰتِهِۦ لَعَلَّكُمۡ تَعۡقِلُونَ} (73)

والضمير في : فاضربوه " يعود على " النفس " لتأويلها بمعنى الشخص والإنسان ، أو على القتيل المدلول عليه بقوله : { وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ } والجملة من " اضربوه " في محلّ نصب بالقول .

وفي الكلام محذوف والتقدير : فقلنا : اضربوه ببعضها فضربوه ببعضها فحيي ، إلا أنه حذف ذلك لدلالة قوله : { يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى } عليه ، فهو كقوله : { اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ } [ البقرة : 60 ] أي : فضرب فانفجرت [ وقوله : { فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ } [ البقرة : 184 ] أي : فأفطر فعدّة ]{[17]} وقوله : { فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ } [ البقرة : 196 ] أي : فحلق ففدية .

فصل في بيان المضروب به

اختلفوا في البعض الذي ضربوا القتيل به .

فقيل : اللِّسَان ، لأنه آلة الكلام قاله الضحاك والحسين بن الفَضْل .

وقال سعيد بن جُبَير : بعجب ذنبها قاله يمان بن رئاب وهو أولى ؛ لأنه أساس البدن الذي ركب عليه الخلق ، وهو أول ما يخلق وآخر ما يبلى .

وقال مجاهد : بذنبها .

وقال عكرمة والكَلْبي : بفخذها الأيمن{[18]} .

وقال السّدّي : بالبَضْعة التي بين كتفيها .

وقيل : بأذنها .

وقال ابن عباس : بالعظم الذي يلي الغضروف ، وهو أصل الأذن [ وهو المقتل ]{[19]} .

والأقرب أنهم كانوا مخيرين في أبعاض البقرة ؛ لأنهم أمروا بضرب القتيل ببعض البقرة وأي بعض من أبعاض البقرة ضربوا القتيل به ، فإنهم كانوا ممتثلين الأمر ، والإتيان بالمأمور به يدل على الخروج عن العُهْدة .

وليس في القرآن ما يدل على تعيين ذلك البعض ، فإن ورد فيه خبر صحيح قُبِلَ ، وإلا وجب السكوت عنه .

فإن قيل : ما الفائدة في ضرب المقتول ببعض البقرة مع أن الله تعالى قادر على أن يحييه ابتداء ؟

فالجواب : أن الفائدة فيه لتكون الحُجّة أوكد ، وعن الحيلة أبعد ، فقد كان يجوز في العقل للملحد أن يوهمهم أن موسى عليه الصلاة والسلام إنما أحياه بضرب من السِّحر أو من الحيلة ، فلما حيي بالضرب بقطعة من البقرة المذبوحة فانتفت الشبّهة .

فإن قيل : هلا أمر بذبح غير البقرة ؟

فالجواب : أن الكلام في غيرها لو أمروا به كالكلام فيها .

ثم ذكروا فيها فوائد :

أحدها : التقريب بِالقَرَابِيْن التي كانت العادة بها جارية ، ولأن هذا القُرْبَان كان عندهم أعظم القرابين ، ولما فيه من مزيد الثواب لتحمل الكُلْفة في تحصيل هذه البقرة .

قيل : على غلاء ثمنها ، ولما فيه من حصول المال العظيم لمالك البقرة .

قوله : { كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى } " كذلك " في محلّ نصب ؛ لأنه نعت لمصدر محذوف تقديره : يحيي الله الموتى إحياء مثل ذلك الإحياء ، فيتعلّق بمحذوف ، أي : إحياء كائناً كذلك الإحياء ، أو لأنه حال من المصدر المعروف ، أي : ويريكم الإراءة حال كونها مُشْبِهَةً ذلك الإحياء ، وقد تقدم أنه مذهب سيبويه .

و " الموتى " جمع مَيِّت ، وفي هذه الإشارة وجهان :

أحدهما : أنها إشارة إلى نفس ذلك الميت .

والثاني : أنها احتجاج على صحّة الإعادة . قال الأصم : إنه على المشركين ؛ لأنه إن ظهر لهم بالتَّوَاتر [ أن هذا الإحياء قد كان على هذه الوجه علموا صحّة الإعادة ، وإن لم يظهر ذلك بالتواتر ] ، فإنه داعية إلى التفكُّر . وقال القَفّال : ظاهره يدلّ على أن الله تعالى قال هذا لبني إسرائيل أي : إحياء الله الموتى يكون مثل هذا الذي شاهدتم ؛ لأنهم وإن كانوا مؤمنين بذلك إلاَّ أنهم لم يؤمنوا به إلاَّ من طريق الاستدلال ، ولم يشاهدوا شيئاً منه ، فإذا شاهدوه اطمأنت قلوبهم ، وانتفت عنهم الشّبهة ، فأحيا الله القتيلَ عياناً ، ثم قال لهم : كذلك يحيي الله المَوْتَى ، أي : كما أحياها في الدُّنيا يحييها في الآخرة من غير احتياج إلى مادّة ومثال وآلة التي لا يخلو منها المستدل .

قوله : " وَيُريكُمْ آيَاتِهِ " الرؤيا هنا بَصَرية ، فالهمزة للتعدية أكسبت الفعل مفعولاً ثانياً وهو " آياته " ، والمعنى : يجعلكم مُبْصرين آياته .

و " كم " هو المفعول الأول ، وأصل " يريكم " : يُأَرْإِيكم ، فحذفت همزة " أفعل " في المضارعة لما تقدم في { يُؤْمِنُونَ } [ البقرة : 3 ] وبابه ، [ فبقي يُرْئيكم ]{[20]} ، فنقلت حركة الهمزة على " الراء " ، وحذفت " الهمزة " تخفيفاً ، وهو نقل لازم في مادة " رأى " وبابه دون غيره مما عينه همزة نحو : " نأى ينأى " ولا يجوز عدم النقل في " رأى " وبابه إلا ضرورة كقوله : [ الوافر ]

592- أُرِي عَيْنَيَّ مَا لَمْ تَرْأَيَاهُ *** كِلاَنَا عَالِمٌ بِالتُّرَّهَاتِ{[21]}

فصل في نظم الآية

[ لقائل أن يقول ]{[22]} : إن ذلك كان آية واحدة فلم سميت بالآيات ؟

فالجواب : أنها تدلّ على وجود الصانع القادر على المقدورات العالم بكلّ المعلومات المختار في الإيجاد والإبداع ، وعلى صدق موسى عليه الصَّلاة والسَّلام - وعلى براءة من لم يقتل ، وعلى تعيين القاتل ، فهي وإن كانت آية واحدة إلا أنها لَمَّا دلت على [ هذه ]{[23]} المدلولات الكبيرة لا جرم جرت مجرى الآيات .

قوله : " لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ " تقدم تفسير العَقْل .

قال الواقديّ{[24]} : كل ما في القرآن من قوله : " لَعَلَّكُمْ " فهو بمعنى " لكن " إلاّ التي في الشعراء : { وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ } [ الشعراء : 129 ] فإنه بمعنى [ لعلكم ]{[25]} تخلدون فلا تموتون .

فإن قيل : القوم كانوا عقلاء قبل عرض هذه الآيات عليهم ، وإذا كانوا عقلاء امتنع أن يقال : إني عرضت عليك الآية الفلانية لكي تصير عاقلاً [ فالجواب أنه ]{[26]} لا يمكن إجراء الآية على ظاهرها ، بل لا بد من التأويل ، وهو أن يكون المراد : لعلكم تعلمون على [ قلة ]{[27]} عقولكم وأن من قدر على إحياء نفس واحدة قدر على إحياء الأنفس كلها لعدم الاختصاص حتى لا ينكروا المبعث

فصل في توريث القاتل

ذكر كثير من المتقدمين أن من جملة أحكام هذه الآية أن القاتل هل يرث أم لا ؟

قالوا : لا ؛ لأنه روي عن عَبِيْدَةَ السَّلْمَاني أن الرجل القاتل في هذه [ الواقعة ]{[28]} حرم الميراث لكونه قاتلاً .

قال القاضي : " لا يجوز جعل هذه المسألة من أحكام هذه الآية ؛ لأنه ليس في ظاهر الآية أن القاتل هل كان وارثاً لقتيله أم لا ؟ وبتقدير أن يكون وارثاً فهل حرم الميراث أم لا ؟ وليس يجب إذ روي عن عبيدة أن القاتل حرم الميراث لكونه قاتلاً ، أي : بعد ذلك في جملة أحكام القرآن إذا كان لا يدلّ عليه لا مجملاً ولا مفصلاً ، وإذا كان كذلك لم يثبت أن شرعهم كشرعنا ، وأنه [ لا ] يلزم الاقتداء لهم .

واستدل مالك بهذه الآية على صحّة القول بالقَسَامَةِ بقول المقتول : حقّي عند فلان ، أو فلان قتلني .

ومنعه الشافعي وغيره ؛ لأن قول القتيل : دمي عند فلان ، أو فلان قتلني خبر يحتمل الصدق والكذب ، ودم المدعى عليه معصوم غير مباح إلا بيقين ، ولا يقين مع الاحتمال ، وأما قتيل بني إسرائيل فكانت معجزة فأخبر تعالى أنه يحييه ، وذكره يتضمن الإخبار بقاتله خبر ما لا يدخله الاحتمال .

قال ابن العربي : المعجزة إنما كانت في إحيائه ، فلما صار حيًّا صار كلامه كسائر كلام الناس .


[17]:ينظر: السبعة 200، والكشف 1/334، والحجة، 3/6 والبحر المحيط 2/389، والدر المصون 2/5.
[18]:قال سيبويه 3/25 "فإن قلت: ما بالي أقول: واحد اثنان، فأشم الواحد، ولا يكون ذلك في هذه الحروف فلأن الواحد اسم متمكن، وليس كالصوت، وليست هذه الحروف مما يدرج وليس أصلها الإدراج...".
[19]:ينظر: المشكل 1/ 123.
[20]:ينظر: الكتاب 2/107.
[21]:ينظر: البحر المحيط 2/391.
[22]:سقط في ب.
[23]:ينظر: الدر المصون 2/6.
[24]:ينظر ديوانه ص 216، ولسان العرب (ثور)، وخزانة الأدب 7/210، ورصف المباني ص 41 والمصنف 1/68، والدر المصون 2/6.
[25]:قرأ بها عيسى بن عمر كما في الشواذ 129، وستأتي في سورة "ص" آية 1،2.
[26]:تقدمت.
[27]:سقط في أ.
[28]:سقط في أ.