{ فقلنا اضربوه ببعضها } : جملة معطوفة على قوله : { قتلتم نفساً فادّارأتم فيها } .
والجملة من قوله تعالى : { والله مخرج ما كنتم تكتمون } اعتراضية بين المعطوف والمعطوف عليه ، مشعرة بأن التدارؤ لا يجدي شيئاً ، إذ الله تعالى مظهر ما كتم من أمر القتيل .
والهاء في اضربوه عائد على النفس ، على تذكير النفس ، إذ فيها التأنيث ، وهو الأشهر ، والتذكير ، أو على أو الأول هو على حذف مضاف ، أي وإذ قتلتم ذا نفس ، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه ، فروعي بعود الضمير مؤنثاً في قوله : { فادّارأتم } فيها ، وروعي المحذوف بعود الضمير عليه مذكراً في قوله : { فقلنا اضربوه } ، أو عائد على القتيل ، أي ، فقلنا : اضربوا القتيل ببعضها .
الظاهر أنهم أمروا أن يضربوه بأي بعض كان ، فقيل : ضربوه بلسانها ، أو بفخذها اليمنى ، أو بذنبها ، أو بالغضروف ، أو بالعظم الذي يلي الغضروف ، وهو أصل الأذن ، أو بالبضغة التي بين الكتفين ، أو بالعجب ، وهو أصل الذنب ، أو بالقلب واللسان معاً ، أو بعظم من عظامها ، قاله أبو العالية .
والباء في ببعضها للآلة ، كما تقول : ضربت بالقدوم ، والضمير عائد على البقرة ، أي ببعض البقرة .
وفي الكلام حذف يدل عليه ما بعده وما قبله ، التقدير : فضربوه فحيي ، دل على ضربوه قوله تعالى : { اضربوه ببعضها } ، ودل على فحيي قوله تعالى : { كذلك يحيي الله الموتى } .
ونقل أن الضرب كان على جيد القتيل ، وذلك قبل دفنه ، ومن قال : إنهم مكثوا في طلبها أربعين سنة ، أو من يقول : إنهم أمروا بطلبها ، ولم تكن في صلب ولا رحم ، فلا يكون الضرب إلا بعد دفنه .
قيل : على قبره ، والأظهر أنه المباشر بالضرب لا القبر .
وروي أنه قام وأوداجه تشخب دماً ، وأخبر بقاتله فقال : قتلني ابن أخي ، فقال بنو أخيه والله ما قتلناه ، فكذبوا بالحق بعد معاينته ، ثم مات مكانه .
وفي بعض القصص أنه قال : قتلني فلان وفلان ، لا بني عمه ، ثم سقط ميتاً ، فأخذا وقتلا ، ولم يورثوا قاتلاً بعد ذلك .
وقال الماوردي : كان الضرب بميت لا حياة فيه ، لئلا يلتبس على ذي شبهة أن الحياة إنما انقلبت إليه مما ضرب به لتزول الشبهة وتتأكد الحجة .
{ كذلك يحيي الله الموتى } : إن كان هذا خطاباً للذين حضروا إحياء القتيل ، كان ثم إضمار قول : أي وقلنا لهم كذلك يحيي الله الموتى يوم القيامة .
وقدّره الماوردي خطاباً من موسى ، على نبينا وعليه الصلاة والسلام .
وإن كان لمنكري البعث في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيكون من تلوين الخطاب .
والمعنى : كما أحيي قتيل بني إسرائيل في الدنيا ، كذلك يحيي الله الموتى يوم القيامة ، وإلى هذا ذهب الطبري ، والظاهر هو الأول ، لانتظام الآي في نسق واحد ، ولئلا يختلف خطاب { لعلكم تعقلون } ، وخطاب { ثم قست قلوبكم } ، لأن ظاهر قلوبكم أنه خطاب لبني إسرائيل .
والكاف من كذلك صفة لمصدر محذوف منصوب بقوله : { يحيي الله الموتى } ، أي إحياء مثل ذلك الإحياء يحيي الله الموتى ، والمماثلة إنما هي في مطلق الإحياء لاقى كيفية الإحياء ، فيكون ذلك إشارة إلى إحياء القتيل .
وجعل صاحب المنتخب ذلك إشارة إلى نفس القتيل ، ويحتاج في تصحيح ذلك إلى حذف مضاف ، أي مثل إحياء ذلك القتيل ، يحيي الله الموتى ، فجعله إشارة إلى المصدر أولى وأقل تكلفاً .
وإذا كان ذلك خطاباً لبني إسرائيل الحاضرين إحياء القتيل ، فحكمه مشاهدة ذلك ، وإن كانوا مؤمنين بالبعث ، اطمئنان قلوبهم وانتفاء الشبهة عنهم ، إذ الذي كانوا مؤمنين به بالاستدلال آمنوا به مشاهدة .
{ ويريكم آياته } : ظاهر هذا الكلام الاستئناف ، ويجوز أن يكون معطوفاً على يحيي ، والظاهر أن الآيات جمع في اللفظ والمعنى ، وهي ما أراهم من إحياء الميت ، والعصا ، والحجر ، والغمام ، والمنّ والسلوى ، والسحر ، والبحر ، والطور ، وغير ذلك .
وكانوا مع ذلك أعمى الناس قلوباً ، وأشد قسوة وتكذيباً لنبيهم في تلك الأوقات التي شاهدوا فيها تلك العجائب والمعجزات .
وقال صاحب المنتخب : { ويريكم آياته } ، وإن كانت آية واحدة ، لأنها تدل على وجود الصانع القادر على كل المقدورات ، العالم بكل المعلومات ، المختار في الإيجاد والإبداع ، وعلى صدق موسى عليه الصلاة والسلام ، وعلى براءة ساحة من لم يكن قاتلاً ، وعلى تعين تلك التهمة على من باشر ذلك القتل .
{ لعلكم تعقلون } : أي لعلكم تمتنعون من عصيانه ، وتعملون على قضية عقولكم ، من أن من قدر على إحياء نفس واحدة ، قدر على إحياء الأنفس كلها ، لعدم الاختصاص ، { ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة } ، أي كخلق نفس واحدة وبعثها .
وقال الزمخشري : في الأسباب والشروط حكم وفوائد ، وإنما شرط ذلك لما في ذبح البقرة في من التقرب ، وأداء التكليف ، واكتساب الثواب ، والإشعار بحسن تقديم القربة على الطلب ، وما في التشديد عليهم ، لتشديدهم من اللطف لهم والآخرين في ترك التشديد ، والمسارعة إلى امتثال أوامر الله تعالى ، وارتسامها على الفور من غير تفتيش وتكثير سؤال ، ونفع اليتيم بالتجارة الرابحة ، والدلالة على بركة البر بالأبوين ، والشفقة على الأولاد ، وتجهيل الهازىء بما لا يعلم كنهه ، ولا يطلع على حقيقته من كلام الحكماء .
وبيان أن من حق المتقرب إلى ربه : أن يتنوق في اختيار ما يتقرب به ، وأن يختاره فتى السن غير فخم ولا ضَرعٍ ، حسن اللون بريئاً من العيوب ، يونق من ينظر إليه ، وأن يغالي بثمنه ، كما روي عن عمر رضي الله تعالى عنه ، أنه ضحى بنجيبة بثلاثمائة دينار ، وأن الزيادة في الخطاب نسخ له ، وأن النسخ قبل الفعل جائز ، وإن لم يجز قبل وقت الفعل وإمكانه لأدائه إلى البدء ، وليعلم بما أمر من مس الميت بالميت ، وحصول الحياة عقيبه ، وأن المؤثر هو المسبب لا الأسباب ، لأن الموتين الحاصلين في الجسمين لا يعقل أن يتولد منهما حياة .
وقد ذكر المفسرون أحكاماً فقهية ، انتزعوها واستدلوا عليها من قصة هذا القتل ، ولا يظهر استنباطهم ذلك من هذه الآية .
قالوا : هذه الآية دليل على حرمان القاتل ميراث المقتول ، وإن كان ممن يرثه .
وأقول : لا تدل هذه الآية على ذلك ، وإنما القصة ، إن صحت ، تدل على ذلك ، لأن في آخرها : فما ورث قاتل بعدها ممن قتله .
وروي عن عمر وعلي وابن عباس وابن المسيب أنه لا ميراث له ، عمداً كان أو خطأً ، لا من ديته ، ولا من سائر ماله .
وبه قال أبو حنيفة والثوري والأوزاعي وأبو يوسف ، إلا أن أصحاب أبي حنيفة قالوا : إن كان صبياً أو مجنوناً ، ورث .
وقال عثمان الليثي : يرث قاتل الخطأ .
وقال ابن وهب ، عن مالك : لا يرث قاتل العمد من ديته ، ولا من ماله .
وإن قتله خطأ ، يرث من ماله دون ديته .
ويروى مثله عن الحسن ومجاهد والزهري ، وهو قول الأوزاعي .
وقال المزني ، عن الشافعي : إذا قتل الباغي العادل ، أو العادل الباغي ، لا يتوارثان لأنهما قاتلان .
وقالوا : استدل مالك في رواية ابن القاسم وابن وهب بهذه القصة ، على صحة القول بالقسامة ، بقول المقتول : دمي عند فلان ، أو فلان قتلني ، وقال الجمهور خلافه .
وقالوا في صفة البقرة استدلال لمن قال : إن شرع من قبلنا شرع لنا ، وهو مذهب مالك وجماعة من الفقهاء ، قالوا : في هذه الآيات أدل دليل على حصر الحيوان بصفاته ، أنه إذا حصر بصفة يعرف بها جاز السلم فيه ، وبه قال مالك والأوزاعي والليث والشافعي ، وقال أبو حنيفة : لا يجوز السلم في الحيوان .
ودلائل هذه المسائل مذكورة في كتب خلاف الفقهاء ، ولا يظهر استنباط شيء من هذا من هذه القصة .
قال القشيري : أراد الله أن يحيي ميتهم ليفصح بالشهادة على قاتله ، فأمر بقتل حيوان لهم ، فجعل سبب حياة مقتولهم بقتل حيوان لهم صارت الإشارة منه ، أن من أراد حياة قلبه لم يصل إليه إلا بذبح نفسه .
فمن ذبح نفسه بالمجاهدات حيي قلبه بأنوار المشاهدات ، وكذلك من أراد حياة في الأبد أمات في الدنيا ذكره بالخمول .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.