البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{فَقُلۡنَا ٱضۡرِبُوهُ بِبَعۡضِهَاۚ كَذَٰلِكَ يُحۡيِ ٱللَّهُ ٱلۡمَوۡتَىٰ وَيُرِيكُمۡ ءَايَٰتِهِۦ لَعَلَّكُمۡ تَعۡقِلُونَ} (73)

{ فقلنا اضربوه ببعضها } : جملة معطوفة على قوله : { قتلتم نفساً فادّارأتم فيها } .

والجملة من قوله تعالى : { والله مخرج ما كنتم تكتمون } اعتراضية بين المعطوف والمعطوف عليه ، مشعرة بأن التدارؤ لا يجدي شيئاً ، إذ الله تعالى مظهر ما كتم من أمر القتيل .

والهاء في اضربوه عائد على النفس ، على تذكير النفس ، إذ فيها التأنيث ، وهو الأشهر ، والتذكير ، أو على أو الأول هو على حذف مضاف ، أي وإذ قتلتم ذا نفس ، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه ، فروعي بعود الضمير مؤنثاً في قوله : { فادّارأتم } فيها ، وروعي المحذوف بعود الضمير عليه مذكراً في قوله : { فقلنا اضربوه } ، أو عائد على القتيل ، أي ، فقلنا : اضربوا القتيل ببعضها .

الظاهر أنهم أمروا أن يضربوه بأي بعض كان ، فقيل : ضربوه بلسانها ، أو بفخذها اليمنى ، أو بذنبها ، أو بالغضروف ، أو بالعظم الذي يلي الغضروف ، وهو أصل الأذن ، أو بالبضغة التي بين الكتفين ، أو بالعجب ، وهو أصل الذنب ، أو بالقلب واللسان معاً ، أو بعظم من عظامها ، قاله أبو العالية .

والباء في ببعضها للآلة ، كما تقول : ضربت بالقدوم ، والضمير عائد على البقرة ، أي ببعض البقرة .

وفي الكلام حذف يدل عليه ما بعده وما قبله ، التقدير : فضربوه فحيي ، دل على ضربوه قوله تعالى : { اضربوه ببعضها } ، ودل على فحيي قوله تعالى : { كذلك يحيي الله الموتى } .

ونقل أن الضرب كان على جيد القتيل ، وذلك قبل دفنه ، ومن قال : إنهم مكثوا في طلبها أربعين سنة ، أو من يقول : إنهم أمروا بطلبها ، ولم تكن في صلب ولا رحم ، فلا يكون الضرب إلا بعد دفنه .

قيل : على قبره ، والأظهر أنه المباشر بالضرب لا القبر .

وروي أنه قام وأوداجه تشخب دماً ، وأخبر بقاتله فقال : قتلني ابن أخي ، فقال بنو أخيه والله ما قتلناه ، فكذبوا بالحق بعد معاينته ، ثم مات مكانه .

وفي بعض القصص أنه قال : قتلني فلان وفلان ، لا بني عمه ، ثم سقط ميتاً ، فأخذا وقتلا ، ولم يورثوا قاتلاً بعد ذلك .

وقال الماوردي : كان الضرب بميت لا حياة فيه ، لئلا يلتبس على ذي شبهة أن الحياة إنما انقلبت إليه مما ضرب به لتزول الشبهة وتتأكد الحجة .

{ كذلك يحيي الله الموتى } : إن كان هذا خطاباً للذين حضروا إحياء القتيل ، كان ثم إضمار قول : أي وقلنا لهم كذلك يحيي الله الموتى يوم القيامة .

وقدّره الماوردي خطاباً من موسى ، على نبينا وعليه الصلاة والسلام .

وإن كان لمنكري البعث في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيكون من تلوين الخطاب .

والمعنى : كما أحيي قتيل بني إسرائيل في الدنيا ، كذلك يحيي الله الموتى يوم القيامة ، وإلى هذا ذهب الطبري ، والظاهر هو الأول ، لانتظام الآي في نسق واحد ، ولئلا يختلف خطاب { لعلكم تعقلون } ، وخطاب { ثم قست قلوبكم } ، لأن ظاهر قلوبكم أنه خطاب لبني إسرائيل .

والكاف من كذلك صفة لمصدر محذوف منصوب بقوله : { يحيي الله الموتى } ، أي إحياء مثل ذلك الإحياء يحيي الله الموتى ، والمماثلة إنما هي في مطلق الإحياء لاقى كيفية الإحياء ، فيكون ذلك إشارة إلى إحياء القتيل .

وجعل صاحب المنتخب ذلك إشارة إلى نفس القتيل ، ويحتاج في تصحيح ذلك إلى حذف مضاف ، أي مثل إحياء ذلك القتيل ، يحيي الله الموتى ، فجعله إشارة إلى المصدر أولى وأقل تكلفاً .

وإذا كان ذلك خطاباً لبني إسرائيل الحاضرين إحياء القتيل ، فحكمه مشاهدة ذلك ، وإن كانوا مؤمنين بالبعث ، اطمئنان قلوبهم وانتفاء الشبهة عنهم ، إذ الذي كانوا مؤمنين به بالاستدلال آمنوا به مشاهدة .

{ ويريكم آياته } : ظاهر هذا الكلام الاستئناف ، ويجوز أن يكون معطوفاً على يحيي ، والظاهر أن الآيات جمع في اللفظ والمعنى ، وهي ما أراهم من إحياء الميت ، والعصا ، والحجر ، والغمام ، والمنّ والسلوى ، والسحر ، والبحر ، والطور ، وغير ذلك .

وكانوا مع ذلك أعمى الناس قلوباً ، وأشد قسوة وتكذيباً لنبيهم في تلك الأوقات التي شاهدوا فيها تلك العجائب والمعجزات .

وقال صاحب المنتخب : { ويريكم آياته } ، وإن كانت آية واحدة ، لأنها تدل على وجود الصانع القادر على كل المقدورات ، العالم بكل المعلومات ، المختار في الإيجاد والإبداع ، وعلى صدق موسى عليه الصلاة والسلام ، وعلى براءة ساحة من لم يكن قاتلاً ، وعلى تعين تلك التهمة على من باشر ذلك القتل .

انتهى كلامه .

{ لعلكم تعقلون } : أي لعلكم تمتنعون من عصيانه ، وتعملون على قضية عقولكم ، من أن من قدر على إحياء نفس واحدة ، قدر على إحياء الأنفس كلها ، لعدم الاختصاص ، { ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة } ، أي كخلق نفس واحدة وبعثها .

وقال الزمخشري : في الأسباب والشروط حكم وفوائد ، وإنما شرط ذلك لما في ذبح البقرة في من التقرب ، وأداء التكليف ، واكتساب الثواب ، والإشعار بحسن تقديم القربة على الطلب ، وما في التشديد عليهم ، لتشديدهم من اللطف لهم والآخرين في ترك التشديد ، والمسارعة إلى امتثال أوامر الله تعالى ، وارتسامها على الفور من غير تفتيش وتكثير سؤال ، ونفع اليتيم بالتجارة الرابحة ، والدلالة على بركة البر بالأبوين ، والشفقة على الأولاد ، وتجهيل الهازىء بما لا يعلم كنهه ، ولا يطلع على حقيقته من كلام الحكماء .

وبيان أن من حق المتقرب إلى ربه : أن يتنوق في اختيار ما يتقرب به ، وأن يختاره فتى السن غير فخم ولا ضَرعٍ ، حسن اللون بريئاً من العيوب ، يونق من ينظر إليه ، وأن يغالي بثمنه ، كما روي عن عمر رضي الله تعالى عنه ، أنه ضحى بنجيبة بثلاثمائة دينار ، وأن الزيادة في الخطاب نسخ له ، وأن النسخ قبل الفعل جائز ، وإن لم يجز قبل وقت الفعل وإمكانه لأدائه إلى البدء ، وليعلم بما أمر من مس الميت بالميت ، وحصول الحياة عقيبه ، وأن المؤثر هو المسبب لا الأسباب ، لأن الموتين الحاصلين في الجسمين لا يعقل أن يتولد منهما حياة .

انتهى كلامه ، وهو حسن .

وقد ذكر المفسرون أحكاماً فقهية ، انتزعوها واستدلوا عليها من قصة هذا القتل ، ولا يظهر استنباطهم ذلك من هذه الآية .

قالوا : هذه الآية دليل على حرمان القاتل ميراث المقتول ، وإن كان ممن يرثه .

وأقول : لا تدل هذه الآية على ذلك ، وإنما القصة ، إن صحت ، تدل على ذلك ، لأن في آخرها : فما ورث قاتل بعدها ممن قتله .

وروي عن عمر وعلي وابن عباس وابن المسيب أنه لا ميراث له ، عمداً كان أو خطأً ، لا من ديته ، ولا من سائر ماله .

وبه قال أبو حنيفة والثوري والأوزاعي وأبو يوسف ، إلا أن أصحاب أبي حنيفة قالوا : إن كان صبياً أو مجنوناً ، ورث .

وقال عثمان الليثي : يرث قاتل الخطأ .

وقال ابن وهب ، عن مالك : لا يرث قاتل العمد من ديته ، ولا من ماله .

وإن قتله خطأ ، يرث من ماله دون ديته .

ويروى مثله عن الحسن ومجاهد والزهري ، وهو قول الأوزاعي .

وقال المزني ، عن الشافعي : إذا قتل الباغي العادل ، أو العادل الباغي ، لا يتوارثان لأنهما قاتلان .

وقالوا : استدل مالك في رواية ابن القاسم وابن وهب بهذه القصة ، على صحة القول بالقسامة ، بقول المقتول : دمي عند فلان ، أو فلان قتلني ، وقال الجمهور خلافه .

وقالوا في صفة البقرة استدلال لمن قال : إن شرع من قبلنا شرع لنا ، وهو مذهب مالك وجماعة من الفقهاء ، قالوا : في هذه الآيات أدل دليل على حصر الحيوان بصفاته ، أنه إذا حصر بصفة يعرف بها جاز السلم فيه ، وبه قال مالك والأوزاعي والليث والشافعي ، وقال أبو حنيفة : لا يجوز السلم في الحيوان .

ودلائل هذه المسائل مذكورة في كتب خلاف الفقهاء ، ولا يظهر استنباط شيء من هذا من هذه القصة .

قال القشيري : أراد الله أن يحيي ميتهم ليفصح بالشهادة على قاتله ، فأمر بقتل حيوان لهم ، فجعل سبب حياة مقتولهم بقتل حيوان لهم صارت الإشارة منه ، أن من أراد حياة قلبه لم يصل إليه إلا بذبح نفسه .

فمن ذبح نفسه بالمجاهدات حيي قلبه بأنوار المشاهدات ، وكذلك من أراد حياة في الأبد أمات في الدنيا ذكره بالخمول .

/خ74