معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{ٱللَّهُ نَزَّلَ أَحۡسَنَ ٱلۡحَدِيثِ كِتَٰبٗا مُّتَشَٰبِهٗا مَّثَانِيَ تَقۡشَعِرُّ مِنۡهُ جُلُودُ ٱلَّذِينَ يَخۡشَوۡنَ رَبَّهُمۡ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمۡ وَقُلُوبُهُمۡ إِلَىٰ ذِكۡرِ ٱللَّهِۚ ذَٰلِكَ هُدَى ٱللَّهِ يَهۡدِي بِهِۦ مَن يَشَآءُۚ وَمَن يُضۡلِلِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُۥ مِنۡ هَادٍ} (23)

قوله عز وجل { الله نزل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً } يشبه بعضه بعضاً في الحسن ، ويصدق بعضه بعضاً ليس فيه تناقض ولا اختلاف { مثاني } يثنى فيه ذكر الوعد والوعيد ، والأمر والنهي ، والأخبار والأحكام . { تقشعر } تضطرب وتشمئز { منه جلود الذين يخشون ربهم } والاقشعرار تغير في جلد الإنسان عند الوجل والخوف وقيل : المراد من الجلود القلوب ، أي : قلوب الذين يخشون ربهم { ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله } أي : لذكر الله ، أي : إذا ذكرت آيات العذاب اقشعرت جلود الخائفين لله ، وإذا ذكرت آيات الرحمة لانت وسكنت قلوبهم ، كما قال الله تعالى :{ ألا بذكر الله تطمئن القلوب } ( الرعد-28 ) . وحقيقة المعنى : أن قلوبهم تقشعر عند الخوف ، وتلين عند الرجاء .

أخبرنا أبو سعيد الشريحي ، أنبأنا أبو إسحاق الثعلبي ، أخبرني الحسين بن محمد ، حدثنا موسى بن محمد بن علي ، حدثنا محمد بن عبدوس بن كامل ، حدثنا يحيى ابن عبد الحميد الحمامي ، حدثنا عبد العزيز بن محمد ، عن يزيد بن الهادي ، عن محمد ابن إبراهيم التيمي ، عن أم كلثوم بنت عمر ، عن العباس بن عبد المطلب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا اقشعر جلد العبد من خشية الله تحاتت عنه ذنوبه ، كما يتحات عن الشجرة اليابسة ورقها " .

أخبرنا أبو سعيد الشريحي ، أنبأنا أبو إسحاق الثعلبي ، أخبرني الحسين بن محمد ، حدثنا أحمد بن جعفر بن حمدان ، حدثنا موسى بن إسحاق الأنصاري ، حدثنا محمد بن معاوية ، حدثنا الليث بن سعد ، حدثنا يزيد بن عبد الله بن الهاد بهذا الإسناد ، وقال : " إذا اقشعر جلد العبد من خشية الله حرمه الله على النار " . قال قتادة : هذا نعت أولياء الله نعتهم بأن تقشعر جلودهم وتطمئن قلوبهم بذكر الله ، ولم ينعتهم بذهاب عقولهم والغشيان عليهم . إنما ذلك في أهل البدع وهو من الشيطان . أخبرنا أبو سعيد الشريحي ، أنبأنا أبو إسحاق الثعلبي ، أنبأنا الحسين بن محمد بن فنجويه ، حدثنا شيبة ، حدثنا حمدان بن داود ، حدثنا سلمة بن شيبة ، حدثنا خلف بن سلمة ، حدثنا هشيم ، عن حصين ، عن عبد الله بن عروة بن الزبير ، قال : قلت لجدتي أسماء بنت أبي بكر : كيف كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعلون إذا قرئ عليهم القرآن ؟ قالت : كانوا كما نعتهم الله عز وجل . تدمع أعينهم ، وتقشعر جلودهم . قال : فقلت لها : إن ناساً اليوم إذا قرئ عليهم القرآن خر أحدهم مغشياً عليه ، فقالت : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم . وبه عن سلمة ، حدثنا يحيى ، بن يحيى ، حدثنا سعيد بن عبد الرحمن الجمحي ، أن ابن عمر مر برجل من أهل العراق ساقطا ، ً فقال : ما بال هذا ؟ قالوا : إنه إذا قرئ عليه القرآن أو سمع ذكر الله سقط ، قال ابن عمر : إنا لنخشى الله وما نسقط . وقال ابن عمر : إن الشيطان يدخل في جوف أحدهم ، ما كان هذا صنيع أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، وذكر عند ابن سيرين الذين يصرعون إذا قرئ عليهم القرآن ، فقال : بيننا وبينهم أن يقعد أحدهم على ظهر بيت باسطاً رجليه ، ثم يقرأ عليه القرآن من أوله إلى آخره ، فإن رمى بنفسه فهو صادق . { ذلك } يعني : أحسن الحديث .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{ٱللَّهُ نَزَّلَ أَحۡسَنَ ٱلۡحَدِيثِ كِتَٰبٗا مُّتَشَٰبِهٗا مَّثَانِيَ تَقۡشَعِرُّ مِنۡهُ جُلُودُ ٱلَّذِينَ يَخۡشَوۡنَ رَبَّهُمۡ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمۡ وَقُلُوبُهُمۡ إِلَىٰ ذِكۡرِ ٱللَّهِۚ ذَٰلِكَ هُدَى ٱللَّهِ يَهۡدِي بِهِۦ مَن يَشَآءُۚ وَمَن يُضۡلِلِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُۥ مِنۡ هَادٍ} (23)

هذا مَدْحٌ من الله - عز وجل - لكتابه القرآن العظيم المنزل على رسوله الكريم ، قال الله تعالى : { اللَّهُ نزلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ } قال مجاهد : يعني القرآن كله متشابه مثاني . وقال قتادة : الآية تشبه الآية ، والحرف يشبه الحرف . وقال الضحاك : { مَثَانِيَ } ترديد القول ليفهموا عن ربهم عز وجل . وقال عكرمة ، والحسن : ثنَّى الله فيه القضاء - زاد الحسن : تكون السورة فيها آية ، وفي السورة الأخرى آية تشبهها .

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : { مَثَانِيَ } مُرَدَّد ، رُدِّد موسى في القرآن ، وصالح وهود والأنبياء ، عليهم السلام ، في أمكنة كثيرة . وقال سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : { مَثَانِيَ } قال : القرآن يشبه بعضه بعضا ، ويُرَدُّ بعضه على بعض . وقال بعض العلماء : وُيرْوى عن سفيان بن عيينة معنى قوله : { مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ } أنّ سياقات القرآن تارةً تكونُ في معنى واحد ، فهذا من المتشابه ، وتارةً تكونُ بذكر الشيء وضده ، كذكر المؤمنين ثم الكافرين ، وكصفة الجنة ثم صفة النار ، وما أشبه هذا ، فهذا من المثاني ، كقوله تعالى : { إِنَّ الأبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ } [ الانفطار : 14 ، 13 ] ، وكقوله { كَلا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ } [ المطففين : 7 ] ، إلى أن قال : { كَلا إِنَّ كِتَابَ الأبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ } [ المطففين : 18 ] ، { هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ } [ ص : 49 ] ، إلى أن قال : { هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ } [ ص : 55 ] ، ونحو هذا من السياقات فهذا كله من المثاني ، أي : في معنيين اثنين ، وأما إذا كان السياق كله في معنى واحد يشبه بعضه بعضا ، فهو المتشابه وليس هذا من المتشابه المذكور في قوله : { مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ } [ آل عمران : 7 ] ، ذاك معنى آخر .

وقوله : { تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ } أي هذه صفة الأبرار ، عند سماع كلام الجبار ، المهيمن العزيز الغفار ، لما يفهمون منه من الوعد والوعيد . والتخويف والتهديد ، تقشعر منه جلودهم من الخشية والخوف ، { ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ } لما يرجون ويُؤمِّلون من رحمته ولطفه ، فهم مخالفون لغيرهم من الكفار من وجوه :

أحدها : أن سماع هؤلاء هو تلاوة الآيات ، وسماع أولئك نَغَمات لأبيات ، من أصوات القَيْنات .

الثاني : أنهم إذا تليت عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا ، بأدب وخشية ، ورجاء ومحبة ، وفهم وعلم ، كما قال : { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } [ الأنفال : 2 - 4 ] وقال تعالى : { وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا } [ الفرقان : 73 ] أي : لم يكونوا عند سماعها متشاغلين لاهين عنها ، بل مصغين إليها ، فاهمين بصيرين بمعانيها ؛ فلهذا إنما يعملون بها ، ويسجدون عندها عن بصيرة لا عن جهل ومتابعة لغيرهم أي : يرون غيرهم قد سجد فيسجدون تبعا له .

الثالث : أنهم يلزمون الأدب عند سماعها ، كما كان الصحابة ، رضي الله عنهم عند سماعهم كلام الله من تلاوة رسول الله صلى الله عليه وسلم تقشعر جلودهم ، ثم تلين مع قلوبهم إلى ذكر الله . لم يكونوا يتصارخُون ولا يتكلّفون ما ليس فيهم ، بل عندهم من الثبات والسكون والأدب والخشية ما لا يلحقهم أحد في ذلك ؛ ولهذا فازوا بالقِدح المُعَلّى في الدنيا والآخرة .

قال عبد الرزاق : حدثنا مَعْمَر قال : تلا قتادة ، رحمه الله : { تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ }

قال : هذا نعت أولياء الله ، نعتهم الله بأن تقشعر جلودهم ، وتبكي أعينهم ، وتطمئن قلوبهم إلى ذكر الله ، ولم ينعتهم بذهاب عقولهم والغشيان عليهم ، إنما هذا في أهل البدع ، وهذا من الشيطان .

وقال السُّدِّي : { ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ } أي : إلى وعد الله . وقوله : { ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ } أي : هذه صفة من هداه الله ، ومن كان على خلاف ذلك فهو ممن أضله الله ، { وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ } [ الرعد : 33 ] .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{ٱللَّهُ نَزَّلَ أَحۡسَنَ ٱلۡحَدِيثِ كِتَٰبٗا مُّتَشَٰبِهٗا مَّثَانِيَ تَقۡشَعِرُّ مِنۡهُ جُلُودُ ٱلَّذِينَ يَخۡشَوۡنَ رَبَّهُمۡ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمۡ وَقُلُوبُهُمۡ إِلَىٰ ذِكۡرِ ٱللَّهِۚ ذَٰلِكَ هُدَى ٱللَّهِ يَهۡدِي بِهِۦ مَن يَشَآءُۚ وَمَن يُضۡلِلِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُۥ مِنۡ هَادٍ} (23)

وقوله تعالى : { الله نزل أحسن الحديث } يريد به القرآن ، وروي عن ابن عباس أن سبب هذه الآية أن قوماً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا : يا رسول الله حدثنا بأحاديث حسان وأخبرنا بأخبار الدهر ، فنزلت الآية في ذلك .

وقوله : { متشابهاً } معناه : مستوياً لا تناقض فيه ولا تدافع ، بل يشبه بعضه بعضاً في وصف اللفظ ووثاقة البراهين وشرف المعاني ، إذ هي اليقين في العقائد في الله تعالى وصفاته وأفعاله وشرعه .

وقوله : { مثاني } معناه : موضع تثنية للقصص والأقضية ، والمواعظ شتى فيه ولا تمل مع ذلك ولا يعرضها ما يعرض الحديث المعاد . قال ابن عباس : ثنى فيه الأمر مراراً . ولا ينصرف { مثاني } لأنه جمع لا نظير له في الواحد .

وقوله تعالى : { تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم } عبارة عن قفّ شعر الإنسان عندما يداخله خوف ولين قلب عن سماع موعظة أو زجر قرآن ونحوه ، وهذه علامة وفزع المعنى المخشع في قلب السامع ، وفي الحديث أن أبي بن كعب قرأ عند النبي صلى الله عليه وسلم فرقت القلوب ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «اغتنموا الدعاء عند الرقة فإنها رحمة » وقال العباس بن عبد المطلب : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «من اقشعر جلده من خشية الله تحاتت عنه ذنوبه كما يتحاتُّ عن الشجرة اليابسة ورقها » وقالت أسماء بنت أبي بكر : كان أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم تدمع أعينهم وتقشعر جلودهم عند سماع القرآن ، قيل لها : إن أقواماً اليوم إذا سمع أحدهم القرآن خر مغشياً عليه ، فقالت : أعوذ بالله من الشيطان ، وقال ابن عمر : وقد رئي ساقطاً عند سماع القرآن فقال : إنا لنخشى الله وما نسقط ، هؤلاء يدخل الشيطان في جوف أحدهم . وقال ابن سيرين : بيننا وبين هؤلاء الذي يصرعون عند قراءة القرآن أن يجعل أحدهم على حائط باسطاً رجليه ثم يقرأ القرآن كله ، فإن رمى بنفسه فهو صادق .

وقوله : { ذلك هدى الله } يحتمل أن يشير إلى القرآن ، أي ذلك الذي هذه صفته هدى الله ، ويحتمل أن يشير إلى الخشية واقشعرار الجلود ، أي ذلك أمارة هدى الله ، ومن جعل { تقشعر } في موضع الصفة لم يقف على { مثاني } ، ومن جعله مستأنفاً وإخباراً منقطعاً وقف على { مثاني } وباقي الآية بين .