الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{ٱللَّهُ نَزَّلَ أَحۡسَنَ ٱلۡحَدِيثِ كِتَٰبٗا مُّتَشَٰبِهٗا مَّثَانِيَ تَقۡشَعِرُّ مِنۡهُ جُلُودُ ٱلَّذِينَ يَخۡشَوۡنَ رَبَّهُمۡ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمۡ وَقُلُوبُهُمۡ إِلَىٰ ذِكۡرِ ٱللَّهِۚ ذَٰلِكَ هُدَى ٱللَّهِ يَهۡدِي بِهِۦ مَن يَشَآءُۚ وَمَن يُضۡلِلِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُۥ مِنۡ هَادٍ} (23)

قوله : { كِتَاباً } : فيه وجهان ، أظهرهما : أنه بدلٌ مِنْ " أحسنَ الحديث " . والثاني : أنه حالٌ منه . قال الشيخ - لَمَّا نقله عن الزمخشري - : " وكأنَّه بناءً على أنَّ " أَحْسَن الحديث " معرفةٌ لإِضافتِه إلى معرفةٍ ، وأفعلُ التفضيلِ إذا أُضيف إلى معرفةٍ فيه خلافٌ . فقيل : إضافتُه مَحْضَةٌ . وقيل : غيرُ محضة " . قلت : وعلى تقديرِ كونِه نكرةً يَحْسُنُ أيضاً أَنْ يكونَ حالاً ؛ لأنَّ النكرةَ متى أُضيفَتْ ساغ مجيءُ الحالِ منها بلا خلافٍ . والصحيحُ أنَّ إضافةَ أَفْعَلَ محضةٌ . و " مُتَشابِهاً " نعتٌ ل " كتاب " وهو المُسَوِّغُ لمجيءِ الجامدِ حالاً ، أو لأنَّه في قوةِ مكتوب .

وقرأ العامَّةُ " مثانيَ " بفتح الياء صفةً ثانية أو حالاً أخرى أو تمييزاً منقولاً من الفاعلية أي متشابهاً مثانيه وإلى هذا ذهب الزمخشري . وقرأ هشام عن ابن عامر وأبو بِشْرٍ بسكونها ، وفيها وجهان ، أحدُهما : أنه مِنْ تسكِينِ حرفِ العلةِ استثقالاً للحركةِ عليه كقراءة " تُطْعِمُوْن أهاليْكم " وقوله :

كأنَّ أَيْدِيْهِنَّ . . . . . . . . . . . . . *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ونحوِهما .

والثاني : أنه خبرُ مبتدأ محذوفٍ أي : هو مثاني ، كذا ذكره الشيخ . وفيه نظرٌ مِنْ حيث إنه كان ينبغي أَنْ يُنَوَّنَ وتُحْذَفَ ياؤُه لالتقاءِ الساكنين فيقال : مثانٍ ، كما تقول : هؤلاء جوارٍ . وقد يُقال : إنه وُقِفَ عليه . ثم أُجْرِيَ الوصلُ مُجْرى/ الوقفِ لكنْ يُعْتَرَضُ عليه : بأنَّ الوَقْفَ على المنقوصِ المنونِ بحَذْفِ الياءِ نحو : هذا قاضٍ ، وإثباتُها لغةٌ قليلةٌ . ويمكن الجوابُ عنه : بأنَّه قد قُرِئ بذلك في المتواترِ نحو : { مِنْ والي } و { باقي } و { هادي } في قراءة ابن كثير .

قوله : " تَقْشَعِرُّ " هذه الجملةُ يجوزُ أَنْ تكونَ صفةً ل " كتاب " ، وأَنْ تكونَ حالاً منه لاختصاصِه بالصفةِ ، وأَنْ تكونَ مستأنفةً . واقشعرَّ جِلْدُه إذا تقبَّضَ وتَجَمَّعَ من الخوف ، وقَفَّ شعرُه . والمصدرُ الاقشعرارُ والقُشَعْرِيرة أيضاً . ووزن اقْشَعَرَّ افْعَلَلَّ . ووزنُ القُشَعْرِيرة : فَعَلِّيْلَة .

و " مَثاني " جمعُ مَثْنى ؛ لأنَّ فيه تثنيةَ القصصِ والمواعظِ ، أو جمعُ مَثْنى مَفْعَل مِنْ التثنية بمعنى التكرير . وإنما وُصِفَ " كتاب " وهو مفردٌ بمثاني ، وهو جمعٌ ؛ لأنَّ الكتابَ مشتملٌ على سورٍ وآياتٍ ، أو هو من باب : بُرْمَةٌ أعشارٌ وثَوْبٌ أخلاقٌ . كذا قال الزمخشري : وقيل : ثَمَّ موصوفٌ محذوفٌ أي : فصولاً مثانيَ حُذِفَ للدلالةِ عليه .