تأويلات أهل السنة للماتريدي - الماتريدي  
{ٱللَّهُ نَزَّلَ أَحۡسَنَ ٱلۡحَدِيثِ كِتَٰبٗا مُّتَشَٰبِهٗا مَّثَانِيَ تَقۡشَعِرُّ مِنۡهُ جُلُودُ ٱلَّذِينَ يَخۡشَوۡنَ رَبَّهُمۡ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمۡ وَقُلُوبُهُمۡ إِلَىٰ ذِكۡرِ ٱللَّهِۚ ذَٰلِكَ هُدَى ٱللَّهِ يَهۡدِي بِهِۦ مَن يَشَآءُۚ وَمَن يُضۡلِلِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُۥ مِنۡ هَادٍ} (23)

قوله تعالى : { اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ } يحتمل قوله عز وجل : { اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ } أصدقه خبرا وأعدله حكما ، وهو ما ذكر في آية أخرى ، ووصفه بالصدق والعدل حين قال عز وجل { وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا } [ الأنعام : 115 ] أي صدقا في خبره وعدلا في حكمه .

فعلى ذلك يحتمل قوله : { أحسن الحديث } خبرا وأعدله حكما ، والله أعلم .

وجائز أن يكون قوله : { أحسن الحديث } أي أتقنه وأحكمه ، وهو متقن ومحكم ، وهو على ما وصفه بالصدق والعدل في آية أخرى ، وقال : { لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ } [ فصلت : 42 ] أخبر أنه لا يأتي القرآن باطل من بين يديه ولا من خلفه ؛ وذلك لإتقانه وإحكامه ، والله أعلم .

وهو أحسن الحديث لأن من تأمله ، ونظر فيه ، وتفكر ، أنار قلبه ، وأضاء صدره ، وهداه سبيل الخير والحق ، ودفع عنه الوساوس والشبهات وكل شر ، وأفضاه إلى كل خير وبر ؛ فهو أحسن الحديث ، إذ لا حديث يعمل ما يعمل هو لما ذكرنا وغير ذلك ، والله أعلم .

وقوله تعالى : { كِتَابًا مُتَشَابِهًا } قوله { متشابها } أي ليس يختلف ، ولا يتناقض ، ليس كحديث الناس وكتبهم مما يختلف ، ويتناقض حديثهم وكتابهم وخاصة في ما امتد من الأوقات ، وطال ، وبعدت مدته ، وهو ما ذكر : { أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا } [ النساء : 82 ] .

دل كونه متفقا متشابها غير مختلف في حلول نزوله وتفرق أوقاته وتباعد أيامه في الإنزال أنه من عند الله نزل ، ومنه جاء ؛ إذ لو لم يكن من عنده لخرج مختلفا متناقضا على ما يخرج حديث الناس وخبرهم مختلفا ومتناقضا ، والله أعلم .

وقوله تعالى : { مثاني } قال أهل التأويل : سماه مثاني لما يثني فيه أنباءه وقصصه مرة بعد مرة . وأصله أنه سماه مثاني لأنه ذكر فيه المواعظ والذكرى ، وكررها ، في غير موضع لما لو لم يكررها لغفلوا عنها ، وسهوا عنها ، لأن الحكيم إذا وعظ أحدا عظة ، وزجره عن شيء ، ثم تركه ، لم يعظه ، ولم يزجره ثانيا ، غفل عما وعظة ، وزجره وسها عنه . وكرر عز وجل عليهم المواعظ والزواجر ليكونوا أبدا متعظين متذكرين لذلك ، والله أعلم ، لكيلا يغفلوا عنها ، ولا يسهوا .

وقوله تعالى : { تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ } عند تلاوة آية الرهبة والخوف { ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ } عند تلاوة آية الرحمة .

وجائز أن يكون ذلك لهم بجميع القرآن بما فيه من الرحمة والرهبة جميعا ؛ يكون فيهما الموعظة : تلين قلوبهم ، وتقشعر جلودهم ، وتخاف أنفسهم ، لأن آية الرحمة ليست بأحق بتليين القلوب من آية الرهبة ، بل آية الرهبة أحق بذلك .

وقتادة يقول : كانت جلودهم تقشعر ، وعيونهم تبكي ، وقلوبهم تظمئن إليه ، ولا تذهب عقولهم ، ولا يغشى عليهم كما رأينا أهل البدع يفعلونه ، وإنما ذلك من الشيطان .

وقوله تعالى : { ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ } قد بين سبل الهدى والحق وحججه وبراهينه ، وبين سبل الضلالة والباطل . فمن سلك سبيل الهدى فبتوفيقه سلك ، وبمعونته اهتدى ، ومن سلك طريق الكفر والباطل فبخذلانه ضل ، وزاغ .

وقوله تعالى : { وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ } أخبر أن من أضله الله فلا هادي له ، على ما قال في المعيشة والرزق ؛ قال عز وجل : { مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ } [ فاطر : 2 ] وقال عز وجل : في الضراء والخير حين قال : { وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ } [ يونس : 107 ] ذكر في الضلال والهدى ما ذكر في الرزق والضر والخير .

ذكر أن لله في فعلهم وصنعهم تدبيرا ، ليس على ما تقوله المعتزلة : أن لا تدبير لله في ذلك ، وأن من اهتدى فإنما يهتدي بنفسه ، ومن ضل ، وزاغ فإنما ذلك بنفسه ، لا تدبير لله في ذلك فالآية تنقض قولهم ومذهبهم .

وقتادة يقول في قوله : { تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إلى ذكر الله } وإنما يذكر الله أهل الإيمان ، فكانت تقشعر بذلك جلودهم ، وتبكي أعينهم ، وتطمئن قلوبهم ، ولا تذهب عقولهم منه .

وأما تضرع أحدهم ، فلم يكن ، وكان هذا في أصحاب البدع ، وربما هو من الشيطان .

ولعمري ما كان في هذه الأمة أحد أعلم من نبيه صلى الله عليه وسلم ومن بعده أصحابه الذين انتخبهم الله عز وجل لصحبة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحاب أصحابه ، فحدثوا أن هذا إنما كان في أهل البدع .