التفسير الشامل لأمير عبد العزيز - أمير عبد العزيز  
{ٱللَّهُ نَزَّلَ أَحۡسَنَ ٱلۡحَدِيثِ كِتَٰبٗا مُّتَشَٰبِهٗا مَّثَانِيَ تَقۡشَعِرُّ مِنۡهُ جُلُودُ ٱلَّذِينَ يَخۡشَوۡنَ رَبَّهُمۡ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمۡ وَقُلُوبُهُمۡ إِلَىٰ ذِكۡرِ ٱللَّهِۚ ذَٰلِكَ هُدَى ٱللَّهِ يَهۡدِي بِهِۦ مَن يَشَآءُۚ وَمَن يُضۡلِلِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُۥ مِنۡ هَادٍ} (23)

قوله تعالى : { اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ } .

ذلك ثناء من الله عظيم على كتابه الحكيم ، القرآن ، الذي أنزله هداة وتبصرة للناس إلى يوم الدين وهو قوله : { اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا } { كتاباً } بدل من { أحْسَنَ } وقيل : حال منه .

قوله : { مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ } { مُتَشَابِهًا } يشبه بعضه بعضا في الصدق والبيان والوعظ والحكمة والإعجاز ، وغير ذلك من مختلف المعاني . وبذلك إذا كانت سياقات القرآن في معنى واحد يشبه بعضه بعضا فهو التشابه .

وأما المثاني : فهو جوع مثنى ، بمعنى مردد ومكرر لما ثني من قصصه وأخباره وأحكامه وأوامره ونواهيه ووعيده ومواعظه .

فسياقات القرآن تكون بذكر الشيء وضده ، كذكر المؤمنين ثم الكافرين . وكوصف الجنة ثم وصف النار . ونحو ذلك . فهذا من المثاني .

قوله : { تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ } جملة { تَقْشَعِرُّ } صفة لكتاب ، أو حال منه ، أو مستأنفة . والمصدر اقشعرار ، وقشعريرة . والمعنى : أن المؤمنين المتقين إذا سمعوا القرآن وما فيه من القوارع وآيات الوعيد والتهديد وأخبار الساعة وأهوالها أصبهم لفزع وغشيهم من الرهبة والخشية ما تقشعرّ به جلودهم ، وتضطرب منه قلوبهم وأبدانهم .

قوله : { ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ } يعني إذا ذكرت آيات الرحمة سكنت قلوبهم واطمأنت ، وزال عنها ما كان بها من الفزع والقشعريرة . وليس في الآية أكثر من نعت المؤمنين الخاشعين باقشعرار القلوب والجلود من آيات الكتاب الحكيم ثم سكونهم وطمأنينتهم إلى رحمة الله سبحانه . فلن تنعتهم الآية بالصعق والغشيان كما يفعله أهل البدع وبعض المتصوفة ؛ إذ يُصرعون عند قراءة القرآن ، ويفقدون عقولهم ويضربون رؤوسهم الأرض . وذلك ضرب من الابتداع المستهجن الذي يتلبس به المبتدعون الجهال . وهم في ذلك ليسوا بأخشع وأورع من الصحابة الكرام وهم خير جيل أقلَّتهُ هذه الغبراء فما كانوا يُصعقون ولا يسقطون وما كانت عقولهم لتذهب بسماع القرآن . وإنما كانوا يسكنون ويطمئنون وتخشع قلوبهم وتبكي عيونهم وهم حينئذ في غاية التنبه والادكار والتيقظ .

قوله : { ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ } { ذلكَ } ، إشارة إلى الكتاب الذي هو أحسن الحديث ، فهو هدى الله يهدي به من يشاء هدايته بتوفيقه للتذكر والتدبر والاعتبار .

قوله : { وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ } يضلل الله من العباد من ساء استعداده وفسدت فطرته فنفر من الحق والهداية . ومن كان كذلك { فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ } ليس له من أحد غير الله يرشده ويدله إلى الهداية والصواب .