الصفة الأولى : قوله تعالى : { الله نزل أحسن الحديث } وفيه مسائل :
المسألة الأولى : القائلون بحدوث القرآن احتجوا بهذه الآية من وجوه : الأول : أنه تعالى وصفه بكونه حديثا في هذه الآيات وفي آيات أخرى منها قوله تعالى : { فليأتوا بحديث مثله } ومنها قوله تعالى : { أفبهذا الحديث أنتم مدهنون } والحديث لا بد وأن يكون حادثا ، قالوا بل الحديث أقوى في الدلالة على الحدوث من الحادث لأنه يصح أن يقال هذا حديث وليس بعتيق ، وهذا عتيق وليس بحادث ، فثبت أن الحديث هو الذي يكون قريب العهد بالحديث ، وسمي الحديث حديثا لأنه مؤلف من الحروف والكلمات ، وتلك الحروف والكلمات تحدث حالا فحالا وساعة فساعة ، فهذا تمام تقرير هذا الوجه .
أما الوجه الثاني : في بيان استدلال القوم أن قالوا : إنه تعالى وصفه بأنه نزله والمنزل يكون في محل تصرف الغير . وما يكون كذلك فهو محدث وحادث .
وأما الوجه الثالث : في بيان استدلال القوم أن قالوا : إن قوله أحسن الحديث يقتضي أن يكون هو من جنس سائر الأحاديث كما أن قوله زيد أفضل الإخوة يقتضي أن يكون زيد مشاركا لأولئك الأقوام في صفة الأخوة ويكون من جنسهم ، فثبت أن القرآن من جنس سائر الأحاديث ، ولما كان سائر الأحاديث حادثة وجب أيضا أن يكون القرآن حادثا .
أما الوجه الرابع : في الاستدلال أن قالوا : إنه تعالى وصفه بكونه كتابا والكتاب مشتق من الكتبة وهي الاجتماع ، وهذا يدل على أنه مجموع جامع ومحل تصرف متصرف . وذلك يدل على كونه محدثا والجواب : أن نقول نحمل هذا الدليل على الكلام المؤلف من الحروف والأصوات والألفاظ والعبارات ، وذلك الكلام عندنا محدث مخلوق ، والله أعلم .
المسألة الثانية : كون القرآن أحسن الحديث ، إما أن يكون أحسن الحديث بحسب لفظه أو بحسب معناه .
القسم الأول : أن يكون أحسن الحديث بحسب لفظه وذلك من وجهين : الأول : أن يكون ذلك الحسن لأجل الفصاحة والجزالة الثاني : أن يكون بحسب النظم في الأسلوب ، وذلك لأن القرآن ليس من جنس الشعر ، ولا من جنس الخطب . ولا من جنس الرسائل ، بل هو نوع يخالف الكل ، مع أن كل ذي طبع سليم يستطيبه ويستلذه .
القسم الثاني : أن يكون كونه أحسن الحديث لأجل المعنى ، وفيه وجوه : الأول : أنه كتاب منزه عن التناقض ، كما قال تعالى : { ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا } ومثل هذا الكتاب إذا خلا عن التناقض كان ذلك من المعجزات الوجه الثاني : اشتماله على الغيوب الكثيرة في الماضي والمستقبل الوجه الثالث : أن العلوم الموجودة فيه كثيرة جدا .
وضبط هذه العلوم أن نقول : العلوم النافعة هي ما ذكره الله في كتابه في قوله : { والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير } [ البقرة : 285 ] فهذا أحسن ضبط يمكن ذكره للعلوم النافعة .
أما القسم الأول : وهو الإيمان بالله ، فاعلم أنه يشتمل على خمسة أقسام : معرفة الذات والصفات والأفعال والأحكام والأسماء . أما معرفة الذات فهي أن يعلم وجود الله وقدمه وبقاءه . وأما معرفة الصفات فهي نوعان :
أحدهما : ما يجب تنزيهه عنه ، وهو كونه جوهرا ومركبا من الأعضاء والأجزاء وكونه مختصا بحيز وجهة ، ويجب أن يعلم أن الألفاظ الدالة على التنزيه أربعة : ليس ولم وما ولا ، وهذه الأربعة المذكورة ، مذكورة في كتاب الله تعالى لبيان التنزيه .
أما كلمة ليس ، فقوله : { ليس كمثله شيء } وأما كلمة لم ، فقوله : { لم يلد ولم يولد * ولم يكن له كفوا أحد } [ الإخلاص : 3 ، 4 ] وأما كلمة ما ، فقوله : { وما كان ربك نسيا } [ مريم : 64 ] ، { ما كان لله أن يتخذ من ولد } [ مريم : 35 ] وأما كلمة لا ، فقوله تعالى : { لا تأخذه سنة ولا نوم } [ البقرة : 255 ] ، { وهو يطعم ولا يطعم } [ الأنعام : 14 ] ، { وهو يجير ولا يجار عليه } [ المؤمنون : 88 ] ، وقوله في سبعة وثلاثين موضعا من القرآن { لا إله إلا الله } [ محمد : 19 ] .
وأما النوع الثاني : وهي الصفات التي يجب كونه موصوفا بها من القرآن فأولها العلم بالله ، والعلم بكونه محدثا خالقا ، قال تعالى : { الحمد لله الذي خلق * السموات والأرض } [ الأنعام : 1 ] وثانيها : العلم بكونه قادرا ، قال تعالى في أول سورة القيامة { بلى قادرين على أن نسوى بنانه } وقال في آخر هذه السورة { أليس ذلك بقادر على أن يحيى الموتى } وثالثها : العلم بكونه تعالى عالما ، قال تعالى : { هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة } ورابعها : العلم بكونه عالما بكل المعلومات ، قال تعالى : { وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو } وقوله تعالى : { الله يعلم ما تحمل كل أنثى } وخامسها : العلم بكونه حيا ، قال تعالى : { هو الحي لا إله إلا هو فادعوه مخلصين له الدين } وسادسها : العلم بكونه مريدا ، قال الله تعالى : { فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام } وسابعها : كونه سميعا بصيرا ، قال تعالى : { وهو السميع البصير } وقال تعالى : { إنني معكما أسمع وأرى } وثامنها : كونه متكلما ، قال تعالى : { ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله } وتاسعها : كونه أمرا ، قال تعالى : { لله الأمر من قبل ومن بعد } وعاشرها : كونه رحمانا رحيما مالكا ، قال تعالى : { الرحمن الرحيم * مالك يوم الدين } فهذا ما يتعلق بمعرفة الصفات التي يجب اتصافه بها .
وأما القسم الثالث : وهو الأفعال ، فاعلم أن الأفعال إما أرواح وإما أجسام . أما الأرواح فلا سبيل للوقوف عليها إلا للقليل ، كما قال تعالى : { وما يعلم جنود ربك إلا هو } وأما الأجسام ، فهي إما العالم الأعلى وإما العالم الأسفل . أما العالم الأعلى فالبحث فيه من وجوه أحدها : البحث عن أحوال السموات ، و ثانيها : البحث عن أحوال الشمس والقمر كما قال تعالى : { إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يغشى الليل النهار يطلبه حثيثا والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره } وثالثها : البحث عن أحوال الأضواء ، قال الله تعالى : { الله نور السموات والأرض } وقال تعالى : { هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا } ورابعها : البحث عن أحوال الظلال ، قال الله تعالى : { ألم تر إلى ربك كيف مد الظل ولو شاء لجعله ساكنا } وخامسها : اختلاف الليل والنهار ، قال الله تعالى : { يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل } وسادسها : منافع الكواكب ، قال تعالى : { وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر } وسابعها : صفات الجنة ، قال تعالى : { وجنة عرضها كعرض السماء والأرض } وثامنها : صفات النار ، قال تعالى : { لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم } وتاسعها : صفة العرش ، قال تعالى : { الذين يحملون العرش ومن حوله } وعاشرها : صفة الكرسي ، قال تعالى : { وسع كرسيه السموات والأرض } وحادي عشرها : صفة اللوح والقلم . أما اللوح ، فقوله تعالى : { بل هو قرءان مجيد * في لوح محفوظ } وأما القلم ، فقوله تعالى : { ن والقلم وما يسطرون } .
وأما شرح أحوال العالم الأسفل فأولها : الأرض ، وقد وصفها بصفات كثيرة إحداها : كونه مهدا ، قال تعالى : { الذي جعل لكم الأرض مهدا } وثانيها : كونه مهادا ، قال تعالى : { ألم نجعل الأرض مهادا } وثالثها : كونه كفاتا ، قال تعالى : { كفاتا * أحياء وأمواتا } ورابعها : الذلول ، قال تعالى : { هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا } وخامسها : كونه بساطا ، قال تعالى : { والله جعل لكم الأرض بساطا * لتسلكوا منها سبلا فجاجا } والكلام فيه طويل وثانيها : البحر ، قال تعالى : { وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحما طريا } و ثالثها : الهواء والرياح . قال تعالى : { وهو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته } وقال تعالى : { وأرسلنا الرياح لواقح } ورابعها : الآثار العلوية كالرعد والبرق ، قال تعالى : { ويسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته } وقال تعالى : { فترى الودق يخرج من خلاله } ومن هذا الباب ذكر الصواعق والأمطار وتراكم السحاب وخامسها : أحوال الأشجار والثمار وأنواعها وأصنافها ، وسادسها : أحوال الحيوانات ، قال تعالى : { وبث فيها من كل دابة } وقال : { والأنعام خلقها لكم } وسابعها : عجائب تكوين الإنسان في أول الخلقة ، قال : { ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين } وثامنها : العجائب في سمعه وبصره ولسانه وعقله وفهمه وتاسعها : تواريخ الأنبياء والملوك وأحوال الناس من أول خلق العالم إلى آخر قيام القيامة ، وعاشرها ذكر أحوال الناس عند الموت وبعد الموت ، وكيفية البعث والقيامة ، وشرح أحوال السعداء والأشقياء ، فقد أشرنا إلى عشرة أنواع من العلوم في عالم السموات ، وإلى عشرة أخرى في عالم العناصر ، والقرآن مشتمل على شرح هذه الأنواع من العلوم العالية الرفيعة .
وأما القسم الرابع : وهو شرح أحكام الله تعالى وتكاليفه ، فنقول هذه التكاليف إما أن تحصل في أعمال القلوب أو في أعمال الجوارح .
أما القسم الأول : فهو المسمى بعلم الأخلاق وبيان تمييز الأخلاق الفاضلة والأخلاق الفاسدة والقرآن يشتمل على كل ما لا بد منه في هذا الباب ، قال الله تعالى : { إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي } ، وقال : { خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين } .
وأما الثاني : فهو التكاليف الحاصلة في أعمال الجوارح وهو المسمى بعلم الفقه والقرآن مشتمل على جملة أصول هذا العلم على أكمل الوجوه .
وأما القسم الخامس : وهو معرفة أسماء الله تعالى فهو مذكور في قوله تعالى : { ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها } فهذا كله يتعلق بمعرفة الله .
وأما القسم الثاني : من الأصول المعتبرة في الإيمان الإقرار بالملائكة كما قال تعالى : { والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته } والقرآن يشتمل على شرح صفاتهم تارة على سبيل الإجمال وأخرى على طريق التفصيل ، أما بالإجمال فقوله : { وملائكته } وأما بالتفصيل فمنها ما يدل على كونهم رسل الله قال تعالى : { جاعل الملائكة رسلا } ومنها أنها مدبرات لهذا العالم ، قال تعالى : { فالمقسمات أمرا } { فالمدبرات أمرا } وقال تعالى : { والصافات صفا } ومنها حملة العرش قال : { ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية } ومنها الحافون حول العرش قال : { وترى الملائكة حافين من حول العرش } ومنها خزنة النار قال تعالى : { عليها ملائكة غلاظ شداد } ومنها الكرام الكاتبون قال : { وإن عليكم لحافظين * كراما كاتبين } ومنها المعقبات قال تعالى : { له معقبات من بين يديه ومن خلفه } وقد يتصل بأحوال الملائكة أحوال الجن والشياطين .
وأما القسم الثالث : من الأصول المعتبرة في الإيمان معرفة الكتب والقرآن يشتمل على شرح أحوال كتاب آدم عليه السلام قال تعالى : { فتلقى ءادم من ربه كلمات } ومنها أحوال صحف إبراهيم عليه السلام قال تعالى : { وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن } ومنها أحوال التوراة والإنجيل والزبور .
وأما القسم الرابع : من الأصول المعتبرة في الإيمان معرفة الرسل والله تعالى قد شرح أحوال البعض وأبهم أحوال الباقين قال : { منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك } .
القسم الخامس : ما يتعلق بأحوال المكلفين وهي على نوعين الأول : أن يقروا بوجوب هذه التكاليف عليهم وهو المراد من قوله : { وقالوا سمعنا وأطعنا } ، الثاني : أن يعترفوا بصدور التقصير عنهم في تلك الأعمال ثم طلبوا المغفرة وهو المراد من قوله : { غفرانك ربنا } ثم لما كانت مقادير رؤية التقصير في مواقف العبودية بحسب المكاشفات في مطالعة عزة الربوبية أكثر ، كانت المكاشفات في تقصير العبودية أكثر وكان قوله : { غفرانك ربنا } أكثر .
القسم السادس : معرفة المعاد والبعث والقيامة وهو المراد من قوله : { وإليك المصير } وهذا هو الإشارة إلى معرفة المطالب المهمة في طلب الدين ، والقرآن بحر لا نهاية له في تقرير هذه المطالب وتعريفها وشرحها ولا ترى في مشارق الأرض ومغاربها كتابا يشتمل على جملة هذه العلوم كما يشتمل القرآن عليها . ومن تأمل في هذا التفسير علم أنا لم نذكر من بحار فضائل القرآن إلا قطرة ، ولما كان الأمر على هذه الجملة ، لا جرم مدح الله عز وجل القرآن فقال تعالى : { الله نزل أحسن الحديث } ، والله أعلم .
الصفة الثانية : من صفات القرآن قوله تعالى : { كتابا متشابها } أما الكتاب فقد فسرناه في قوله تعالى : { ذلك الكتاب لا ريب فيه } وأما كونه متشابها فاعلم أن هذه الآية تدل على أن القرآن كله متشابه .
وقوله : { هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات } يدل على كون البعض متشابها دون البعض . وأما كونه كله متشابها كما في هذه الآية ، فقال ابن عباس : معناه أنه يشبه بعضه بعضا ، وأقول هذا التشابه يحصل في أمور أحدها : أن الكاتب البليغ إذا كتب كتابا طويلا ، فإنه يكون بعض كلماته فصيحا ، ويكون البعض غير فصيح ، والقرآن يخالف ذلك فإنه فصيح كامل الفصاحة بجميع أجزائه وثانيها : أن الفصيح إذا كتب كتابا في واقعة بألفاظ فصيحة فلو كتب كتابا آخر في غير تلك الواقعة كان الغالب أن كلامه في الكتاب الثاني غير كلامه في الكتاب الأول ، والله تعالى حكى قصة موسى عليه السلام في مواضع كثيرة من القرآن وكلها متساوية متشابهة في الفصاحة وثالثها : أن كل ما فيه من الآيات والبيانات فإنه يقوي بعضها بعضا ويؤكد بعضها بعضا ورابعها : أن هذه الأنواع الكثيرة من العلوم التي عددناها متشابهة متشاركة في أن المقصود منها بأسرها الدعوة إلى الدين وتقرير عظمة الله ، ولذلك فإنك لا ترى قصة من القصص إلا ويكون محصلها المقصود الذي ذكرناه ، فهذا هو المراد من كونه متشابها ، والله الهادي .
الصفة الثالثة : من صفات القرآن كونه مثاني وقد بالغنا في تفسير هذه اللفظة عند قوله تعالى : { ولقد آتيناك سبعا من المثاني } وبالجملة فأكثر الأشياء المذكورة وقعت زوجين زوجين مثل : الأمر والنهي ، والعام والخاص ، والمجمل والمفصل ، وأحوال السموات والأرض ، والجنة والنار ، والظلمة والضوء ، واللوح والقلم ، والملائكة والشياطين ، والعرش والكرسي ، والوعد والوعيد ، والرجاء والخوف ، والمقصود منه بيان أن كل ما سوى الحق زوج ويدل على أن كل شيء مبتلى بضده ونقيضه وأن الفرد الأحد الحق هو الله سبحانه .
الصفة الرابعة : من صفات القرآن قوله : { تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله } وفيه مسائل :
المسألة الأولى : معنى { تقشعر جلودهم } تأخذهم قشعريرة وهي تغير يحدث في جلد الإنسان عند الوجل والخوف ، قال المفسرون : والمعنى أنهم عند سماع آيات الرحمة والإحسان يحصل لهم الفرح فتلين قلوبهم إلى ذكر الله ، وأقول إن المحققين من العارفين قالوا : السائرون في مبدأ إجلال الله إن نظروا إلى عالم الجلال طاشوا ، وإن لاح لهم أثر من عالم الجمال عاشوا ، ويجب علينا أن نذكر في هذا الباب مزيد شرح وتقرير ، فنقول الإنسان إذا تأمل في الدلائل الدالة على أنه يجب تنزيه الله عن التحيز والجهة . فهنا يقشعر جلده ، لأن إثبات موجود لا داخل العالم ولا خارج ولا متصل بالعالم ولا منفصل عن العالم ، مما يصعب تصوره فههنا تقشعر الجلود ، أما إذا تأمل في الدلائل الدالة على أنه يجب أن يكون فردا أحدا ، وثبت أن كل متحيز فهو منقسم فههنا يلين جلده وقلبه إلى ذكر الله . وأيضا إذا أراد أن يحيط عقله بمعنى الأزل فيتقدم في ذهنه بمقدار ألف ألف سنة ثم يتقدم أيضا بحسب كل لحظة من لحظات تلك المدة ألف ألف سنة ، ولا يزال يحتال ويتقدم ويتخيل في الذهن ، فإذا بالغ وتوغل وظن أنه استحضر معنى الأزل قال العقل هذا ليس بشيء ، لأن كل ما استحضرته في فهو متناه والأزل هو الوجود المتقدم على هذه المدة المتناهية ، فههنا يتحير العقل ويقشعر الجلد ، وأما إذا ترك هذا الاعتبار وقال ههنا موجود والموجود إما واجب وإما ممكن ، فإن كان واجبا فهو دائما منزه عن الأول والآخر وإن كان ممكنا فهو محتاج إلى الواجب فيكون أزليا أبديا ، فإذا اعتبر العقل فهم معنى الأزلية فههنا يلين جلده وقلبه إلى ذكر الله ، فثبت أن المقامين المذكورين في الآية لا يجب قصرهما على سماع آية العذاب وآية الرحمة ، بل ذاك أول تلك المراتب وبعده مراتب لا حد لها ولا حصر في حصول تلك الحالتين المذكورتين .
المسألة الثانية : روى الواحدي في «البسيط » عن قتادة أنه قال : القرآن دل على أن أولياء الله موصوفون بأنهم عند المكاشفات والمشاهدات ، تارة تقشعر جلودهم وأخرى تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله . وليس فيه أن عقولهم تزول وأن أعضاءهم تضطرب ، فدل هذا على أن تلك الأحوال لو حصلت لكانت من الشيطان ، وأقول ههنا بحث آخر وهو أن الشيخ أبا حامد الغزالي أورد مسألة في كتاب إحياء علوم الدين ، وهي أنا نرى كثيرا من الناس يظهر عليه الوجد الشديد التام عند سماع الأبيات المشتملة على شرح الوصل والهجر ، وعند سماع الآيات لا يظهر عليه شيء من هذه الأحوال ، ثم إنه سلم هذا المعنى وذكر العذر فيه من وجوه كثيرة ، وأنا أقول : إني خلقت محروما عن هذا المعنى ، فإني كلما تأملت في أسرار القرآن اقشعر جلدي وقف على شعري وحصلت في قلبي دهشة وروعة ، وكلما سمعت تلك الأشعار غلب الهزل علي وما وجدت البتة في نفسي منها أثرا ، وأظن أن المنهج القويم والصراط المستقيم هو هذا ، وبيانه من وجوه الأول : أن تلك الأشعار كلمات مشتملة على وصل وهجر وبغض وحب تليق بالخلق ، وإثباته في حق الله تعالى كفر ، وأما الانتقال من تلك الأحوال إلى معان لائقة بجلال الله فلا يصل إليها إلا العلماء الراسخون في العلم ، وأما المعاني التي يشتمل عليها القرآن فهي أحوال لائقة بجلال الله ، فمن وقف عليها عظم الوله في قلبه ، فإن من كان عنده نور الإيمان وجب أن يعظم اضطرابه عند سماع قوله : { وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو } إلى آخر الآية والثاني : وهو أني سمعت بعض المشايخ قال كما أن الكلام له أثر فكذلك صدور ذلك الكلام من القائل المعين له أثر ، لأن قوة نفس القائل تعين على نفاذ الكلام في الروح ، والقائل في القرآن هنا هو الله بواسطة جبريل بتبليغ الرسول المعصوم ، والقائل هناك شاعر كذاب مملوء من الشهوة وداعية الفجور والثالث : أن مدار القرآن على الدعوة إلى الحق قال تعالى :
{ وإنك لتهدى إلى صراط مستقيم * صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض } وأما الشعر فمداره على الباطل قال تعالى : { والشعراء يتبعهم الغاوون * ألم تر أنهم في كل واد يهيمون * وأنهم يقولون ما لا يفعلون } فهذه الوجوه الثلاثة فروق ظاهرة ، وأما ما يتعلق بالوجدان من النفس فإن كل أحد إنما يخبر عما يجده من نفسه والذي وجدته من النفس والعقل ما ذكرته ، والله أعلم .
المسألة الثالثة : في بيان ما بقي من المشكلات في هذه الآية ونذكرها في معرض السؤال والجواب .
السؤال الأول : كيف تركيب لفظ القشعريرة الجواب : قال صاحب «الكشاف » تركيبه من حروف التقشع وهو الأديم اليابس مضموما إليها حرف رابع وهو الراء ليكون رباعيا ودالا على معنى زائد يقال : اقشعر جلده من الخوف وقف شعره ، وذلك مثل في شدة الخوف .
السؤال الثاني : كيف قال : { تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله } وما الوجه في تعديه بحرف إلى ؟ والجواب : التقدير تلين جلودهم وقلوبهم حال وصولها إلى حضرة الله وهو لا يحس بالإدراك .
السؤال الثالث : لم قال { إلى ذكر الله } ولم يقل إلى ذكر رحمة الله ؟ والجواب : أن من أحب الله لأجل رحمته فهو ما أحب الله ، وإنما أحب شيئا غيره ، وأما من أحب الله لا لشيء سواه فهذا هو المحب المحق وهو الدرجة العالية ، فلهذا السبب لم يقل ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر رحمة الله بل قال إلى ذكر الله ، وقد بين الله تعالى هذا المعنى في قوله تعالى : { فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام } وفي قوله : { ألا بذكر الله تطمئن القلوب } وأيضا قال لأمة موسى : { يا بنى إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم } وقال أيضا لأمة محمد صلى الله عليه وسلم : { فاذكروني أذكركم } .
السؤال الرابع : لم قال في جانب الخوف قشعريرة الجلود فقط ، وفي جانب الرجاء لين الجلود والقلوب معا ؟ والجواب : لأن المكاشفة في مقام الرجاء أكمل منها في مقام الخوف ، لأن الخير مطلوب بالذات والشر مطلوب بالعرض ومحل المكاشفات هو القلوب والأرواح ، والله أعلم .
ثم إنه تعالى لما وصف القرآن بهذه الصفات قال : { ذلك هدى الله يهدى به من يشاء ومن يضلل الله فما له من هاد } فقوله : { ذلك } إشارة إلى الكتاب وهو هدى الله يهدي به من يشاء من عباده وهو الذي شرح صدره أولا لقبول هذه الهداية { ومن يضلل الله } أي من جعل قلبه قاسيا مظلما بليد الفهم منافيا لقبول هذه الهداية { فما له من هاد } واستدلال أصحابنا بهذه الآية وسؤالات المعتزلة وجوابات أصحابنا عين ما تقدم في قوله : { فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام } .