قوله تعالى : { ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت } . الآية قال الشعبي : كان بين رجل من اليهود ورجل من المنافقين خصومة ، فقال اليهودي : نتحاكم إلى محمد ، لأنه عرف أنه لا يأخذ الرشوة ، ولا يميل في الحكم ، وقال المنافق : نتحاكم إلى اليهود ، لعلمه أنهم يأخذون الرشوة ، ويميلون في الحكم ، فاتفقا على أن يأتيا كاهناً في جهينة فيتحاكما إليه ، فنزلت هذه الآية . قال جابر : كانت الطواغيت التي يتحاكمون إليها واحد في جهينة وواحد في أسلم ، وفي كل حي كاهن .
وقال الكلبي : عن أبي صالح وابن عباس : نزلت في رجل المنافقين يقال له بشر ، كان بينه وبين يهودي خصومة ، فقال اليهودي : ننطلق إلى محمد وقال المنافق : بل إلى كعب بن الأشرف ، وهو الذي سماه الله الطاغوت ، فأبى اليهودي أن يخاصمه إلا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما رأى المنافق ذلك أتى معه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم لليهودي ، فلما خرجا من عنده لزمه المنافق وقال : انطلق بنا إلى عمر رضي الله عنه ، فأتيا عمر ، فقال اليهودي : اختصمت أنا وهذا إلى محمد ، فقضى لي عليه ، فلم يرض بقضائه ، وزعم أنه يخاصم إليك . فقال عمر رضي الله عنه للمنافق : أكذلك ؟ قال : نعم ، قال لهما : رويدكما حتى أخرج إليكما ، فدخل عمر البيت ، وأخذ السيف ، واشتمل عليه ثم خرج . فضرب به المنافق حتى برد ، وقال : هكذا أقضي بين من لم يرض بقضاء الله وقضاء رسوله ، فنزلت هذه الآية ، وقال جبريل : إن عمر رضي الله عنه فرق بين الحق والباطل فسمي الفاروق .
وقال السدي : كان ناس من اليهود أسلموا ، ونافق بعضهم ، وكانت قريظة والنضير في الجاهلية إذا قتل رجل من بني قريظة رجلاً من بني النضير قتل به ، أو أخذ ديته مائة وسق تمر ، وإذا قتل رجل من بني النضير رجلاً من قريظة لم يقتل به ، وأعطى ديته ستين وسقاً ، وكانت النضير -وهم حلفاء الأوس- أشرف وأكثر من قريظة وهم حلفاء الخزرج ، فلما جاء الله بالإسلام ، وهاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ، قتل رجل من النضير رجلاً من قريظة ، فاختصموا في ذلك ، فقالت بنو النضير : كنا وأنتم قد اصطلحنا على أن نقتل منكم ولا تقتلون منا ، وديتكم ستون وسقاً وديتنا مائة وسق ، فنحن نعطيكم ذلك ، فقالت الخزرج : هذا شيء كنتم فعلتموه في الجاهلية لكثرتكم وقلتنا ، فقهرتمونا ونحن وأنتم اليوم إخوة ، وديننا ودينكم واحد ، فلا فضل لكم علينا ، فقال المنافقون منهم : انطلقوا إلى أبي بردة الكاهن الأسلمي ، وقال المسلمون من الفريقين : لا بل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأبى المنافقون وانطلقوا إلى أبي بردة ليحكم بينهم ، فقال : أعظموا اللقمة ، يعني الحظ ، فقالوا : لك عشرة أوسق ، قال : لا ، بل مائة وسق ديتي ، فأبوا أن يعطوه فوق عشرة أوسق ، وأبى أن يحكم بينهم ، فأنزل الله تعالى آيتي القصاص وهذه الآية .
قوله تعالى : { ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت } يعني إلى أبي الكاهن ، أو كعب بن الأشرف ، { وقد أمروا أن يكفروا به ، ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالاً بعيداً } .
هذا إنكار من الله ، عز وجل ، على من يدعي الإيمان بما أنزل الله على رسوله وعلى الأنبياء الأقدمين ، وهو مع ذلك يريد التحاكم في فصل الخصومات إلى غير كتاب الله وسنة رسوله ، كما ذكر في سبب نزول هذه الآية : أنها في رجل من الأنصار ورجل من اليهود تخاصما ، فجعل اليهودي يقول : بيني وبينك محمد . وذاك يقول : بيني وبينك كعب بن الأشرف . وقيل : في جماعة من المنافقين ، ممن أظهروا الإسلام ، أرادوا أن يتحاكموا إلى حكام الجاهلية . وقيل غير ذلك ، والآية أعم من ذلك كله ، فإنها ذامة لمن عدل عن الكتاب والسنة ، وتحاكموا إلى ما سواهما من الباطل ، وهو المراد بالطاغوت هاهنا ؛ ولهذا قال : { يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ [ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالا بَعِيدًا . وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا ]{[7822]} } .
وقوله : { يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا } أي : يعرضون عنك إعراضا كالمستكبرين عن ذلك ، كما قال تعالى عن المشركين : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا } [ لقمان : 21 ]هؤلاء وهؤلاء بخلاف المؤمنين ، الذين قال الله فيهم : { إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا [ وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ]{[7823]} } [ النور : 51 ] .
ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت } عن ابن عباس رضي الله عنهما . ( أن منافقا خاصم يهوديا فدعاه اليهودي إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، ودعاه المنافق إلى كعب بن الأشرف ثم إنهما احتكما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فحكم لليهودي فلم يرض المنافق بقضائه وقال : نتحاكم إلى عمر فقال اليهودي لعمر : قضى لي رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يرض بقضائه وخاصم إليك ، فقال عمر رضي الله تعالى عنه للمنافق : أكذلك . فقال نعم . فقال مكانكما حتى أخرج إليكما ، فدخل فأخذ سيفه ثم خرج فضرب به عنق المنافق حتى برد وقال هكذا أقضي لمن يرضى بقضاء الله ورسوله ) فنزلت . وقال جبريل إن عمر قد فرق بين الحق والباطل فسمي الفاروق ، والطاغوت على هذا كعب بن الأشرف وفي معناه من يحكم بالباطل ويؤثر لأجله ، سمي بذلك لفرط طغيانه أو لتشبهه بالشيطان ، أو لأن التحاكم إليه تحاكم إلى الشيطان من حيث إنه الحامل عليه كما قال . { وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا } وقرئ أن " يكفروا بها " على أن الطاغوت جمع كقوله تعالى { أولياؤهم الطاغوت } يخرجونهم .
استئناف ابتدائي للتعجيب من حال هؤلاء ، ناسب الانتقال إليه من مضمون جملة : { إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر } [ النساء : 59 ] . والموصول مراد به قوم معروفون وهم فريق من المنافقين الذين كانوا من اليهود وأظهروا الإسلام لقوله : { رأيت المنافقين يصدّون } ، ولذلك قال : { يزعمون أنّهم آمنوا بما أنزل إليك } . وقد اختلفت الروايات في سبب نزول هذه الآية اختلافاً متقارباً : فعن قتادة والشعبي أنّ يهودياً اختصم مع منافق اسمه بشر فدعا اليهوديُّ المنافقَ إلى التحاكم عند النبي صلى الله عليه وسلم لعلمه أنّه لا يأخذ الرشوة ولا يجورُ في الحكم ، ودعا المنافقُ إلى التحاكم عند كاهن من جُهينة كان بالمدينة .
وعن ابن عباس أنّ اليهودي دَعا المنافق إلى التحاكم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنّ المنافقَ دعا إلى كعب ابن الأشرف ، فأبى اليهودي وانصرفا معاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقضى لليهودي ، فلمّا خرجا ، قال المنافق : لا أرضى ، انطلِق بنا إلى أبي بكر ، فحكم أبو بكر بمثل حكم رسول الله ، فقال المنافق : انطلق بنا إلى عمر ، فلمّا بلغ عمر ، وأخبره اليهودي الخبر وصدَّقه المنافق ، قال عمر : رويدكما حتّى أخرج إليكما ، فدخل وأخذ سيفه ثم ضرب به المنافق حتّى بَرَد ، وقال : هكذا أقضى على من لم يرض بقضاء الله ورسوله . فنزلت الآية وقال جبريل : إن عمر فرّق بين الحقّ والباطل فلقبّه النبي صلى الله عليه وسلم « الفاروق » .
وقال السدّي : كان بين قُريظة والخزرج حِلف ، وبين النَّضير والأوس حلف ، في الجاهلية وكانت النضير أكثر وأشرف ، فكانوا إذا قتَل قُرَظِيُّ نضيرياً قُتل به وأخذ أهل القتيل دية صاحبهم بعد قتل قاتله ، وكانت الدية مائة وسق من تمر ، وإذا قتل نضيريّ قرظيّا لم يُقتل به وأعطى ديته فقط : ستّين وسقاً . فلمّا أسلم نفر من قريظة والنضير قتل نضيريّ قُرظيّا واختصموا ، فقالت النضير : نعطيكم ستّين وسقاً كما كنّا اصطلحنا في الجاهلية ، وقالت قريظة : هذا شيء فعلتموه في الجاهلية لأنّكم كثرتم وقللنا فقهرتمونا ، ونحن اليوم إخوَة وديننا ودينكم واحد ، فقال بعضهم وكان منافقاً : انطلقوا إلى أبي بُردة وكان أبو بردة كاهناً يقضي بين اليهود فيما يتنافرون إليه فيه وقال المسلمون : لا بل ننطلق إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله هذه الآية . ( وأبو بردة بدال بعد الراء على الصحيح ، وكذلك وقع في مفاتيح الغيب وفي الإصابة لابن حجر ، ووقع في كتب كثيرة بزاي بعد الراء وهو تحريف اشتبه بأبي برزة الأسلمي نضلة بن عبيد ولم يكن أبو برزة كاهناً قط ) . ونُسب أبو بردة الكاهن بالأسلمي ، وذكر بعض المفسّرين : أنّه كان في جُهيْنة . وبعضهم ذكر أنّه كان بالمدينة .
وقال البغوي عن جابر بن عبد الله : « كانت الطواغيت التي يتحاكمون إليها واحد في جُهينة وواحد في أسلم ، وفي كلّ حيّ واحد كهّانٌ » .
وفي رواية عكرمة أنّ الذين عناهم الله تعالى ناس من أسلم تنافروا إلى أبي بردة الأسلمي ، وفي رواية قتادة : أنّ الآية نزلت في رجلين أحدهما اسمه بشر من الأنصار ، والآخر من اليهود تدَارءا في حقّ ، فدعاه اليهودي إلى التحاكم عند النبي صلى الله عليه وسلم لعلمه بأنّه يقضي بالحقّ . ودعاه الأنصاري إلى التحاكم للكاهن لأنّه علم أنّه يرتشي ، فيقضي له ، فنزلت فيهما هذه الآية . وفي رواية الشعبي مثل ما قال قتادة ، ولكنّه وصف الأنصاري بأنّه منافق . وقال الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أنّ الخصومة بين منافق ويهودي ، فقال اليهودي « لننطلق إلى محمد » وقال المنافق « بل نأتي كعبَ بن الأشرف اليهودي » وهو الذي سَمَّاه الله الطاغوت .
وصيغة الجمع في قوله : { الذين يزعمون } مرَاد بها واحد . وجيء باسم موصول الجماعة لأنّ المقام مقام توبيخ ، كقولهم : ما بَال أقوام يقولون كذا ، ليشمل المقصودَ ومن كان على شاكلته . والزعم : خبر كاذبٌ ، أو مشوب بخطأ ، أو بحيث يتّهمه الناس بذلك ، فإنّ الأعشى لمّا قال يمدح قيساً بن معد يكرب الكندي :
ونُبِّئْتُ قَيْساً ولم أبْلُهُ *** كما زَعموا خَيْرَ أهل اليَمَنْ
غضب قيس وقال : « وما هو إلاّ الزعم » ، وقال تعالى : { زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا } [ التغابن : 7 ] ، ويقول المحدّث عن حديث غريب فزعم فلان أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال كذا ، أي لإلقاء العهدة على المخبر ، ومنه ما يقع في كتاب سيبويه من قوله زعم الخليل ، ولذلك قالوا : الزعم مطية الكذب .
ويستعمل الزعم في الخبر المحقّق بالقرينة ، كقوله :
زعم العواذل أنّني في غمرة *** صَدقوا ولكن غمرتي لا تنجلي
فقوله { صدقوا } هو القرينة ، ومضارعه مثلّث العَيْننِ ، والأفصح فيه الفتح .
وقد كان الذين أرادوا التحاكم إلى الطاغوت من المنافقين ، كما هو الظاهر ، فإطلاق الزعم على إيمانهم ظاهر .
وعطف قوله { وما أنزل من قبلك } لأنّ هؤلاء المنافقين كانوا من اليهود ، وقد دخل المعطوف في حَيّز الزعم فدلّ على أنّ إيمانهم بما أنزل من قبل لم يَكن مطّرداً ، فلذلك كان ادّعاؤهم ذلك زعمْا ، لانتفاء إيمانهم بالتوراة في أحوال كثيرة مثل هذا ، إذ لو كانوا يؤمنون بها حقّا ، لم يكونوا ليتحاكموا إلى الكهّان ، وشريعة موسى عليه السلام تحذّر منهم .
وقوله { يريدون } أي يحبّون محبّة تبعث على فعل المحبوب .
والطاغوت هنا هم الأصنام ، بدليل قوله : { وقد أمروا أن يكفروا به } ، ولكن فسّروه بالكاهن ، أو بعظيم اليهود ، كما رأيت في سبب نزول الآية ، فإذا كان كذلك فهو إطلاق مجازي بتشبيه عظيم الكفر بالصنم المعبود لغلوّ قومه في تقديسه ، وإمّا لأنّ الكاهن يُتَرجم عن أقوال الصنم في زعمه ، وقد تقدّم اشتقاق الطاغوت عند قوله تعالى : { ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت } [ النساء : 51 ] من هذه السورة . وإنّما قال { ويريد الشيطان أن يضلّهم ضلالاً بعيداً } أي يحبّ ذلك ويحسنّه لهم ، لأنّه ألقى في نفوسهم الدعاء إلى تحكيم الكهّان والانصراف عن حكم الرسول ، أو المعنى : يريد أن يضلّهم في المستقبل بسبب فعلتهم هذه لولا أن أيقظهم الله وتابوا ممّا صنعوا .
والضلال البعيد هو الكفر ، ووصفه بالبعيد مجاز في شدّة الضلال بتنزيله منزلة جنس ذي مسافة كانَ هذا الفرد منه بالغاً غاية المسافة ، قال الشاعر :
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا}: صدقوا {بما أنزل إليك} من القرآن {و} صدقوا ب {وما أنزل من قبلك} من الكتب على الأنبياء، {يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت}، يعني كعب بن الأشرف، وكان يتكهن، {وقد أمروا أن يكفروا به}، يعني أن يتبرؤوا من الكهنة، {ويريد الشيطان أن يضلهم} عند الهدى {ضلالا بعيدا}، يعني طويلا...
ابن العربي: قال مالك: الطاغوت كل ما عبد من دون الله من صنم، أو كاهن، أو ساحر، أو كيفما تصرف الشرك فيه...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
ألم تر يا محمد بقلبك فتعلم إلى الذين يزعمون أنهم صدّقوا بما أنزل إليك من الكتاب، وإلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل من قلبك من الكتب. {يُرِيدُونَ أنْ يَتَحاَكَمُوا} في خصومتهم {إلى الطّاغُوتِ}: إلى من يعظمونه، ويصدرون عن قوله، ويرضون بحكمه من دون حكم الله. {وَقَدْ أُمِرُوا أنْ يَكْفُرُوا بِهِ}: وقد أمرهم الله أن يكذّبوا بما جاءهم به الطاغوت الذي يتحاكون إليه، فتركوا أمر الله، واتبعوا أمر الشيطان. {وَيُريدُ الشّيْطانُ أنْ يُضِلّهُمْ ضَلالاً بَعِيدا} يعني: أن الشيطان يريد أن يصدّ هؤلاء المتحاكمين إلى الطاغوت عن سبيل الحق والهدى، فيضلهم عنها ضلالاً بعيدا، يعني: فيجوز بهم عنها جورا شديدا. وقد ذكر أن هذه الآية نزلت في رجل من المنافقين دعا رجلاً من اليهود في خصومة كانت بينهما إلى بعض الكهان ليحكم بينهم ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم.
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا ابن علية، عن داود، عن الشعبي، قال: كانت بين رجل ممن يزعم أنه مسلم، وبين رجل من اليهود خصومة، فقال اليهودي: أحاكمك إلى أهل دينك، أو قال: إلى النبيّ لأنه قد علم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يأخذ الرشوة في الحكم. فاختلفا، فاتفقا على أن يأتيا كاهنا في جهينة، قال: فنزلت: {ألَمْ تَرَ إلى الّذِينَ يَزْعُمُونَ أنّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إلَيْكَ} يعني: الذي من الأنصار {وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ} يعني: اليهودي {يُرِيدُونَ أنْ يَتَحاكمُوا إلى الطّاغُوتِ} إلى الكاهن {وَقَدْ أُمِرُوا أنْ يَكْفُرُوا بِهِ}: أمر هذا في كتابه، وأمر هذا في كتابه. وتلا: {ويُرِيدُ الشّيْطانُ أنْ يُضِلّهُمْ ضَلالاً بَعِيدا}، وقرأ: {فَلاَ وَرَبّكَ لا يُؤْمِنُونَ حتى يُحَكّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ} إلى: {وَيُسَلّمُوا تَسْلِيما}.
وقال آخرون: الطاغوت في هذا الموضع: هو كعب بن الأشرف. وكانوا إذا ما دعوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول ليحكم بينهم قالوا: بل نحاكمكم إلى كعب¹ فذلك قوله: {يُرِيدُونَ أنْ يَتَحاكَمُوا إلى الطّاغُوت}.
عن الربيع بن أنس في قوله: {ألَمْ تَرَ إلى الّذِينَ يَزْعُمُونَ أنّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ}... إلى قوله: {ضَلالاً بَعِيدا} قال: كان رجلان من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم بينهما خصومة، أحدهم مؤمن، والاَخر منافق. فدعاه المؤمن إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، ودعاه المنافق إلى كعب بن الأشرف، فأنزل الله: {وَإذا قِيلَ لَهُمْ تَعالُوْا إلى ما أنْزَلَ اللّهُ وَإلى الّرسُولِ رأيْتُ المُنافِقِينَ يَصُدّونَ عَنْكَ صُدُودا}...
قال ابن جريج: يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك، قال: القرآن، وما أنزل من قبلك، قال: التوراة. قال: يكون بين المسلم والمنافق الحقّ، فيدعوه المسلم إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم ليحاكمه إليه، فيأبي المنافق ويدعوه إلى الطاغوت: كعب بن الأشرف.
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي سَبَبِ نُزُولِهَا:
يُرْوَى فِي الصَّحِيحِ أَنَّ رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ خَاصَمَ الزُّبَيْرَ فِي شِرَاجِ الْحُرَّةِ؛ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اسْقِ يَا زُبَيْرُ، وَأَرْسِلِ الْمَاءَ إلَى جَارِكِ الْأَنْصَارِيِّ. فَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ: آنَ كَانَ ابْنَ عَمَّتِكَ، فَتَلَوَّنَ وَجْهُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ لِلزُّبَيْرِ: أَمْسِكِ الْمَاءَ حَتَّى يَبْلُغَ الْجَدْرَ، ثُمَّ أَرْسِلْهُ».
وَقَوْلُهُ: {آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إلَيْكَ}: يَعْنِي الْمُنَافِقِينَ، أَظْهَرُوا الْإِيمَانَ.
وَبِقَوْلِهِ: {وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ}: يَعْنِي الْيَهُودَ؛ آمَنُوا بِمُوسَى، وَذَلِكَ قَوْلُهُ: {رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا}، وَيَذْهَبُونَ إلَى الطَّاغُوتِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَارَ الطَّبَرِيُّ أَنْ يَكُونَ نُزُولُ الْآيَةِ فِي الْمُنَافِقِ وَالْيَهُودِيِّ ثُمَّ تَتَنَاوَلُ بِعُمُومِهَا قِصَّةَ الزُّبَيْرِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ. وَكُلُّ مَن اتَّهَمَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحُكْمِ فَهُوَ كَافِرٌ، لَكِنَّ الْأَنْصَارِيَّ زَلَّ زَلَّةً فَأَعْرَضَ عَنْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَقَالَ عَثْرَتَهُ لِعِلْمِهِ بِصِحَّةِ يَقِينِهِ وَأَنَّهَا كَانَتْ فَلْتَةً، وَلَيْسَ ذَلِكَ لِأَحَدٍ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكُلُّ مَنْ لَمْ يَرْضَ بِحُكْمِ الْحَاكِمِ بَعْدَهُ فَهُوَ عَاصٍ آثِمٌ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِيهَا أَنْ يَتَحَاكَمَ الْيَهُودِيُّ مَعَ الْمُسْلِمِ عِنْدَ حَاكِمِ الْإِسْلَامِ، وَسَيَأْتِي فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
مقصود الكلام إن بعض الناس أراد أن يتحاكم إلى بعض أهل الطغيان ولم يرد التحاكم إلى محمد صلى الله عليه وسلم. قال القاضي: ويجب أن يكون التحاكم إلى هذا الطاغوت كالكفر، وعدم الرضا بحكم محمد عليه الصلاة والسلام كفر، ويدل عليه وجوه: الأول: إنه تعالى قال: {يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به} فجعل التحاكم إلى الطاغوت يكون إيمانا به، ولا شك أن الإيمان بالطاغوت كفر بالله، كما أن الكفر بالطاغوت إيمان بالله. الثاني: قوله تعالى: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم} إلى قوله: {ويسلموا تسليما} وهذا نص في تكفير من لم يرض بحكم الرسول عليه الصلاة والسلام. الثالث: قوله تعالى: {فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم} وهذا يدل على أن مخالفته معصية عظيمة، وفي هذه الآيات دلائل على أن من رد شيئا من أوامر الله أو أوامر الرسول عليه الصلاة والسلام فهو خارج عن الإسلام، سواء رده من جهة الشك أو من جهة التمرد، وذلك يوجب صحة ما ذهبت الصحابة إليه من الحكم بارتداد مانعي الزكاة وقتلهم وسبي ذراريهم...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كان التقدير -كما أفهمه آخر الآية و أشعر به أولها بعد أن جمع الخلق على طاعته بالطريق الذي ذكره: فمن أبى ذلك فليس بمؤمن، دل عليه بقوله معجباً مخاطباً لأكمل الخلق الذي عرفه الله المنافقين في لحن القول: {ألم تر} وأشار إلى بعدهم عن على حضرته بقوله: {إلى الذين} وإلى كذبهم ودوام نفاقهم بقوله: {يزعمون أنهم آمنوا} أي أوجدوا هذه الحقيقة وأوقعوها في أنفسهم {بما أنزل إليك} ودل على أن هذا الزاعم المنافق كان من أهل الكتاب قبل ادعاء الإسلام بقوله: {وما} أي ويزعمون أنهم آمنوا بما {أنزل من قبلك} أي من التوراة والإنجيل، قال الأصبهاني: ولا يستعمل- أي الزعم -في الأكثر إلا في القول الذي لا يتحقق، يقال: زعم فلان- إذا شك فيه فلم يعرف كذبه أو صدقه، والمراد أن هؤلاء قالوا قولاً هو عند من لا يعلم البواطن أهل لأن يشك فيه بدليل أنهم {يريدون أن يتحاكموا} أي هم وغرماؤكم {إلى الطاغوت} أي إلى الباطل المعرق في البطلان {وقد} أي والحال أنهم قد {أمروا} ممن له الأمر {أن يكفروا به} في كل ما أنزل من كتابك وما قبله، ومتى تحاكموا إليه كانوا مؤمنين به كافرين بالله، وهو معنى قوله: {ويريد الشيطان} بإرادتهم ذلك التحاكم {أن يضلهم} أي بالتحاكم إليه {ضلالاً بعيداً} بحيث لا يمكنهم معه الرجوع إلى الهدى...
وهذه الآية سبب تسمية عمر رضي الله عنه بالفاروق لضربه عنق منافق لم يرض بحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في قصة ذكرها الثعلبي من رواية الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
الكلام متصل بما قبله فإنه تعالى ذكر أن اليهود يؤمنون بالجبت والطاغوت... وذكر من سوء لحالهم ووعيدهم ما ذكر ثم أمر المؤمنين بعد ذلك بأداء الأمانات إلى أهلها والحكم بالعدل، لأن أولئك قد خانوا بجعلهم الكافرين أهدى سبيلا من المؤمنين، وأمرهم بطاعة الله ورسوله في كل شيء وطاعة أولي الأمر فيما يجمعون عليه مختارين لا مسيطر عليهم فيه وبرد ما تنازعوا فيه إلى الله ورسله في مقابلة طاعة أولئك للطاغوت وإيمانهم به وبالجبت واتباعهم للهوى. وبعد هذا بين لنا حال طائفة أخرى بين الطائفتين وهم المنافقون الذين يزعمون أنهم آمنوا، ومن مقتضى الإيمان امتثال ما أمر به المؤمنون في الآيتين السابقتين، ولكنهم مع هذه الدعوى يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت الذي عليه تلك الطائفة فقال: {ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت} وقد ذكر المفسرون أسبابا متعددة لنزول هذه الآية يمنعنا اختلافها وتشتت رواياتها أن نجزم بواحدة معينة منها وإنما نسترشد بمجموعها إلى معرفة حال من أعرضوا عن حكم الرسول صلى الله عليه وسلم.
وقد تقدم أن "الطاغوت "مصدر الطغيان وهو يصدق على كل من جاءت الروايات في سبب نزول الآية بالتحاكم إليهم (كما قرأت آنفا) ومن قصد التحاكم إلى أي حاكم يريد أن يحكم له بالباطل ويهرب إليه من الحق فهو مؤمن بالطاغوت ولا كذلك الذي يتحاكم إلى من يظن أنه يحكم بالحق، وكل من يتحاكم إليه من دون الله ورسوله ممن يحكم بغير ما أنزل الله على رسوله فهو راغب عن الحق إلى الباطل وذلك عين الطاغوت الذي هو بمعنى الطغيان الكثير، ويدخل في هذا مع ما يقع كثيرا من تحاكم الخصمين إلى الدجالين كالعرافين وأصحاب المندل والرمل ومدعي الكشف ويخرج المحكم في الصلح وكل ما أذن به الشرع مما هو معروف.
أقول: والاستفهام في قوله تعالى {ألم تر} استفهام تعجيب من أمر الذين يزعمون أنهم آمنوا ويأتون بما ينافي في الإيمان كما تقدم بيانه في تفسير {ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب} [آل عمران:23] وأحوال الأمم تكون متشابهة لأنها مظهر أطوار البشر فالإيمان الصحيح بكتب الله ورسله يقتضي الاتباع والعمل بما شرعه الله تعالى على ألسنة تلك الرسل، وترك العمل مع الاستطاعة دليل على أن الإيمان غير راسخ في نفس مدعيه فكيف إذا كان العمل بضد ما شرعه الله تعالى؟ هكذا كان يدعي الإيمان بموسى والتوراة جميع اليهود حتى أولئك الذين يشترون الضلالة بالهدى ويأكلون السحت ويؤمنون بالجبت والطاغوت، وهكذا كان في مسلمي العصر الأول من يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وهم مع ذلك يرغبون عن التحاكم إليه إلى التحاكم إلى الطاغوت، وهكذا شأن الناس في كل زمان لا يكونون كلهم عدولا صادقين في ملة من الملل، ولا يكونون كلهم منافقين أو فاسقين في ملة من الملل، ومن العجائب أن يقال إن كل المسلمين الذين رأوا النبي (صلى الله عليه وسلم) كانوا عدولا والقرآن يصف بعضهم بمثل ما في هذه الآية ويسجل على بعضهم النفاق.
والزعم في أصل اللغة: القول والدعوى سواء كان ذلك حقا أم باطلا. وقال الليث: سمعت أهل العربية يقولون: إذا قيل ذكر فلان كذا وكذا فإنما يقال ذلك لأمر يستيقن أنه حق وإذا شك فيه فلم يدره لعله كذب أو باطل قيل زعم فلان كذا. وقيل الزعم الظن وقيل الكذب، وكل هذا مأخوذ من اختلاف الاستعمال بنظر القائل إلى بعض كلام العرب دون بعض، والذي ينظر في مجموع استعمالاتها لهذه الكلمة يجزم بأن الأكثر أن تستعمل فيما لا يجزم به وإن جاز أن يكون حقا. وقال الراغب: الزعم: حكاية قول يكون مظنة للكذب ولهذا جاء في القرآن في كل موضع ذم القائلين به، وأشار إلى بعض الآيات في ذلك ونحن نزيد عليه في بيانها. قال تعالى: {زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا قل بلى وربي لتبعثن} [التغابن:7] وقال {وما نرى معكم شفعاؤكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء لقد تقطع بينكم وضل عنكم ما كنتم تزعمون} [الأنعام:94] وقال {قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا} [الإسراء:56] وقال {بل زعمتم أن لن نجعل لكم موعدا} [الكهف:49] وفي هذه السورة أيضا {ويوم يقول نادوا شركائي الذين زعمتم} [الكهف:52] وبقي آيات أخرى مستعملة هذا الاستعمال فلغة القرآن أن الزعم يستعمل في الباطل والكذب وهو يرد على الزاعمين ولا يقرهم على شيء.
{وقد أمروا أن يكفروا به} أي يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به في التنزيل الذي يزعمون أنهم آمنوا به. فهذا التنزيل قد بين ذلك بنص الخطاب أو فحواه قال تعالى في سورة النحل وهي مكية: {ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت} [النحل:36] الآية وهي نص في أن كل نبي أرسله الله تعالى قد أمر أتباعه باجتناب الطاغوت. وقال تعالى: {فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى} [البقرة:255] الخ الآيتين. والمعنى أن هؤلاء الزاعمين تدعي ألسنتهم الإيمان بالله وبما أنزله على رسله وتدل أفعالهم على كفرهم بالله وإيمانهم بالطاغوت وإيثارهم لحكمه.
{ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا}، قال الأستاذ الإمام:
أي إن الشيطان الذي هو داعية الباطل والشر في نفس الإنسان يريد أن يجعل بينهم وبين الحق مسافة بعيدة فيكون ضلالهم عنه مستمرا لأنهم لشدة بعدهم عنه لا يهتدون إلى الطريق الموصلة إليه. قيل له فما تقول في هذه المحاكم الأهلية والقوانين؟ قال تلك عقوبة عوقب بها المسلمون أن خرجوا عن هداية قوله تعالى: {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول} فإذا كنا قد تركنا هذه الهداية للقيل والقال وآراء فلان وكلها آراء الرجال من قبل أن نبتلى بهذه القوانين ومنفذيها فأي فرق بين آراء فلان وآراء فلان وكلها آراء منها الموافق لنصوص الكتاب والسنة ومنها المخالف له؟ ونحن الآن مكرهون إلى التحاكم إلى هذه القوانين فما كان منها يخالف حكم الله تعالى يقال فيه أي في أهله {إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان} الآية.
وانظر إلى ما هو موكول إلينا إلى الآن كالأحكام الشخصية والعبادات والمعاملات بين الوالدين والأولاد والأزواج والزوجات، فهل نرجع في شيء من ذلك إلى الله ورسوله؟ إذا تنازع عالمان منا في مسألة فهل يردانها إلى الله ورسوله أم يردانها إلى قيل وقال، فهذا يقول قال الجمل وهذا يقول قال الصاوي وفلان وفلان، اه ما كتبته عنه في الدرس وكتبت في آخره يومئذ "يحرر الموضوع"، ومراده ظاهر، فإنه يقول: إنه لا قول لأحد في قضية أو مسألة مع وجود نص فيها مما أنزله الله تعالى على رسوله أو ما قضى به (صلى الله عليه وسلم) بإذن الله عز وجل، والمسلمون قد تركوا ما جرى عليه السلف من النظر في كل قضية في كتاب الله أولا ثم في سنة رسوله وفي رد المتنازع فيه إليهما، بل عملوا بآراء الناس الذين ينتمون إليهم ويسمونهم علماء مذاهبهم، وإن وجد نص الكتاب أو السنة مخالفا له، ويحرمون الرجوع إلى هذه النصوص، لأن ذلك من الاجتهاد الممنوع عندهم الذي يعد المتصدي له ضالا مضلا في نظرهم.
وقد ترتب على هذا الذنب الذي هو اجتناب تقديم الكتاب والسنة على كل قول ورأي أن سلس المسلمون لحكامهم في مثل مصر، حتى انتقلوا بهم من الحكم بقول فلان وفلان من الذين يسمونهم أهل الفقه ويأخذون بما في كتبهم ابتداء وافق نصوص الكتاب والسنة أم خالفها إلى الحكم بقول فلان وفلان من واضعي القوانين، ولم يكن المتحاكمون إلى رجال القانون أسوأ حالا من المتحاكمين إلى أقوال الفقهاء...
وجملة القول إنه ما كان للمسلمين أن يقبلوا قول أحد أو يعملوا برأيه في شيء له حكم في كتاب الله أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم الثابتة، إلا فيما رخص الله تعالى فيه من أحكام الضرورات والحاجات وما لا حكم له فيهما، فالعمل فيه برأي أولي الأمر في كل زمن بشرطه أولى من العمل دائما برأي بعض المؤلفين لكتب الفقه في القرون الخالية لأنه أقرب إلى المصلحة. هذا هو ما كان يريده رحمه الله تعالى في العبارة التي قالها في درسه بالأزهر وما كان يعتقده. نعم إن من يضعون الأحكام لما لا نص فيه يشترط في الإسلام أن يكونوا عالمين بالنصوص ومقاصد الشريعة وعللها حتى لا يخالفوها وليتيسر لهم رد المتنازع فيها إليها، والأستاذ يقول بهذا أيضا.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
حين ينتهي السياق من تقرير هذه القاعدة الكلية في شرط الإيمان وحد الإسلام، وفي النظام الأساسي للأمة المسلمة، وفي منهج تشريعها وأصوله.. يلتفت إلى الذين ينحرفون عن هذه القاعدة؛ ثم يزعمون -بعد ذلك- أنهم مؤمنون
(ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك. يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت -وقد أمروا أن يكفروا به- ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدًا..)
ألم تر إلى هذا العجب العجاب.. قوم.. يزعمون.. الإيمان. ثم يهدمون هذا الزعم في آن؟! قوم (يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك). ثم لا يتحاكمون إلى ما أنزل إليك وما أنزل من قبلك؟ إنما يريدون أن يتحاكموا إلى شيء آخر، وإلى منهج آخر، وإلى حكم آخر.. يريدون أن يتحاكموا إلى.. الطاغوت.. الذي لا يستمد مما أنزل إليك وما أنزل من قبلك. ولا ضابط له ولا ميزان، مما أنزل إليك وما أنزل من قبلك.. ومن ثم فهو.. طاغوت.. طاغوت بادعائه خاصية من خواص الألوهية. وطاغوت بأنه لا يقف عند ميزان مضبوط أيضا! وهم لا يفعلون هذا عن جهل، ولا عن ظن.. إنما هم يعلمون يقينا ويعرفون تماما، أن هذا الطاغوت محرم التحاكم إليه: (وقد أمروا أن يكفروا به).. فليس في الأمر جهالة ولا ظن. بل هو العمد والقصد. ومن ثم لا يستقيم ذلك الزعم. زعم أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك! إنما هو الشيطان الذي يريد بهم الضلال الذي لا يرجى منه مآب..
ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدًا..
فهذه هي العلة الكامنة وراء إرادتهم التحاكم إلى الطاغوت. وهذا هو الدافع الذي يدفعهم إلى الخروج من حد الإيمان وشرطه بإرادتهم التحاكم إلى الطاغوت! هذا هو الدافع يكشفه لهم. لعلهم يتنبهون فيرجعوا. ويكشفه للجماعة المسلمة، لتعرف من يحرك هؤلاء ويقف وراءهم كذلك.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
الآية الحاضرة هي في الواقع مكملة للآية السابقة، لأنّ الآية السابقة كانت تدعو المؤمنين إِلى طاعة الله والرّسول وأُولي الأمر، والتحاكم إِلى الكتاب والسنة، وهذه الآية تنهى عن التحاكم إِلى الطاغوت واتّباع أمره وحكمه. والطّاغوت كما أشرنا إِلى ذلك سابقاً مشتقّة من الطغيان، وهذه الكلمة مع جميع مشتقاتها تعني التجاوز والتعدي وكسر الحدود وتجاهل القيود، أو كل شيء يكون وسيلة للطغيان أو التمرّد. وعلى هذا الأساس يكون كل من يحكم بالباطل طاغوتاً، لأنّه تجاوز حدود الله وتعدى على قوانين الحقّ والعدل،...
والآية الحاضرة تنهى المسلمين عن أن يترافعوا في الحكم والقضاء إِلى مثل هؤلاء الحكام وتقول: (ألم تر إِلى الذين يزعمون أنّهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إِلى الطّاغوت وقد أمروا أن يكفروا به). ثمّ يضيف القرآن قائلا: (ويريد الشّيطان أن يضلّهم ضلالا بعيداً) أي أنّ التحاكم إِلى الطاغوت فخّ الشيطان ليضل المؤمنين عن الصراط المستقيم. وغير خفي أن الآية الحاضرة شأنها شأن سائر الآيات القرآنية الأخرى تتضمّن حكماً عاماً، وتبيّن قانوناً خالداً لجميع المسلمين في جميع العصور والدهور. وتحذرهم من مراجعة الطواغيت، وطلب الحكم منهم، وإِنّ ذلك لا يناسب الإِيمان بالله والكتب السماوية، هذا مضافاً إِلى كونه يضل الإِنسان عن طريق الحقّ، ويلقيه في مجاهيل الباطل بعيداً عن الحق. إِنّ مفاسد وتبعات مثل هذه الأقضية والأحكام، وأثرها في تحطيم كيان المجتمع البشري وتخريب علاقاته وروابطه وأُسسه ممّا لا يخفى على أحد، فهي أحد العوامل المؤثرة في انحطاط المجتمعات وتأخرها...