فتح الرحمن في تفسير القرآن لتعيلب - تعيلب  
{أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ يَزۡعُمُونَ أَنَّهُمۡ ءَامَنُواْ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيۡكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبۡلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوٓاْ إِلَى ٱلطَّـٰغُوتِ وَقَدۡ أُمِرُوٓاْ أَن يَكۡفُرُواْ بِهِۦۖ وَيُرِيدُ ٱلشَّيۡطَٰنُ أَن يُضِلَّهُمۡ ضَلَٰلَۢا بَعِيدٗا} (60)

ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا( 60 )

{ ألم تر } ألم تنظر ، أو : ألم ينته علمك ؟ { يزعمون } يقولون ويدعون { الطاغوت } الشيطان ، وما عبد من دون الله .

{ ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا } الخطاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، أي : ألم تنظر ، أو : ألم ينته علمك ؟ إنكار على الذين مرضت قلوبهم مع ادعائهم الإيمان( {[1451]} ) فرغبوا عن طاعة الله تعالى والتحاكم إلى ما أنزل ، ومالوا إلى حكم الظلمة الطغاة ؛ قال الليث : قولهم زعم فلان ، معناه : لا نعرف أنه صدق أو كذب ؛ ومنه : زعموا : مطية الكذب ؛ وقال ابن الأعرابي : الزعم قد يستعمل في القول المحقق لكن المراد في الآية : الكذب بالاتفاق ؛ - هذا إنكار من الله عز وجل على من يدعي الإيمان بما أنزل الله على رسوله وعلى الأنبياء الأقدمين ، وهو مع ذلك يريد أن يتحاكم في فصل الخصومات إلى غير كتاب الله وسنة رسوله-( {[1452]} ) ؛ وعن الشعبي وغيره أن سبب النزول شامل لهذه الآية وما بعدها إلى قوله تعالى : { . . . ويسلموا تسليما } .

وعن طائفة من علماء القرآن ما حاصله : كان بين رجل من المنافقين ورجل من اليهود خصومة ، فدعا اليهودي المنافق إلى النبي صلى الله عليه وسلم : لأنه علم أنه لا يقبل الرشوة ؛ ودعا المنافق اليهودي إلى حكامهم ؛ لأنه علم أنهم يأخذون الرشوة في أحكامهم ؛ فلما اختلفا اجتمعا على أن يحكما كاهنا في جهينة ؛ فأنزل الله تعالى في ذلك : { ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك } يعني المنافق ؛ { وما أنزل من قبلك } يعني اليهودي ؛ { يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت } إلى قوله : { يسلموا تسليما } . ا ه .

{ وقد أمروا أن يكفروا } يعدلون عن الاحتكام إلى شرع الله وقضاء رسوله ، ويميلون إلى حكم الشيطان وأهل الطغيان ، والحال أن الله سبحانه أمرهم أن يستيقنوا ببطلان كل سبيل غير سبيل المولى عز وتقدس- ، { ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا } يريد الأشقياء التحاكم إلى الباطل والمبطلين ، ويريد إبليس وأعوانه أن يغووهم ، فيعوجوا ويزيغوا زيغا لا يرجعون بعده إلى الرشد .


[1451]:صحح السيوطي ما وراه الطبراني عن ابن عباس قال: كان برزة الأسلمي كاهنا يقضي بين اليهود فيما يتنافرون فيه، فتنافر إليه الناس من المسلمين فأنزل الله: {ألم تر إلى الذين يزعمون} الآية؛ وأخرج ابن جرير وابن أبى من طريق العوفي عن ابن عباس في قوله:{يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت} قال: الطاغوت رجل من اليهود يقال له كعب بن الأشرف، وكانوا إذا ما دعوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول ليحكم بينهم، قالوا: بل نحاكمكم إلى كعب، فنزلت الآية.
[1452]:من تفسير القرآن العظيم.