الدر المنثور في التفسير بالمأثور للسيوطي - السيوطي  
{أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ يَزۡعُمُونَ أَنَّهُمۡ ءَامَنُواْ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيۡكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبۡلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوٓاْ إِلَى ٱلطَّـٰغُوتِ وَقَدۡ أُمِرُوٓاْ أَن يَكۡفُرُواْ بِهِۦۖ وَيُرِيدُ ٱلشَّيۡطَٰنُ أَن يُضِلَّهُمۡ ضَلَٰلَۢا بَعِيدٗا} (60)

أخرج ابن أبي حاتم والطبراني بسند صحيح عن ابن عباس قال : كان أبو برزة الأسلمي كاهنا يقضي بين اليهود فيما يتنافرون فيه ، فتنافر إليه ناس من المسلمين . فأنزل الله { ألم تر الذين يزعمون أنهم آمنوا } إلى قوله { إحسانا وتوفيقا } .

وأخرج ابن إسحاق وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : " كان الجلاس بن الصامت قبل توبته ، ومعتب بن قشير ، ورافع بن زيد ، وبشير ، كانوا يدعون الإسلام ، فدعاهم رجال من قومهم من المسلمين في خصومة كانت بينهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فدعوهم إلى الكهان حكام الجاهلية . فأنزل الله فيهم { ألم تر إلى الذين يزعمون . . . } الآية " .

وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن الشعبي قال : كان بين رجل من اليهود ورجل من المنافقين خصومة - وفي لفظ : ورجل ممن زعم أنه مسلم - فجعل اليهودي يدعوه إلى النبي صلى الله عليه وسلم لأنه قد علم أنه لا يأخذ الرشوة في الحكم ، ثم اتفقا على أن يتحاكما إلى كاهن في جهينة . فنزلت { ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا . . . } الآية . إلى قوله { ويسلموا تسليما } .

وأخرج ابن جرير عن سليمان التيمي قال : زعم حضرمي أن رجلا من اليهود كان قد أسلم ، فكانت بينه وبين رجل من اليهود مدارأة في حق . فقال اليهودي له : انطلق إلى نبي الله . فعرف أنه سيقضي عليه فأبى ، فانطلقا إلى رجل من الكهان ، فتحاكما إليه . فأنزل الله { ألم تر إلى الذين يزعمون . . . } الآية .

وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة قال : ذكر لنا أن هذه الآية نزلت في رجل من الأنصار ، ورجل من اليهود ، في مدارأة كانت بينهما في حق تدارآ فيه ، فتحاكما إلى كاهن كان بالمدينة ، وتركا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فعاب الله ذلك عليهما ، وقد حدثنا أن اليهودي كان يدعوه إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم ، وكان لا يعلم أنه لا يجوز عليه ، وكان يأبى عليه الأنصاري الذي زعم أنه مسلم . فأنزل الله فيهما ما تسمعون ، عاب ذلك على الذي زعم أنه مسلم وعلى صاحب الكتاب .

وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي في الآية قال : " كان ناس من اليهود قد أسلموا ونافق بعضهم ، وكانت قريظة والنضير في الجاهلية إذا قتل الرجل من بني النضير قتلته بنو قريظة قتلوا به منهم ، فإذا قتل رجل من بني قريظة قتلته النضير أعطوا ديته ستين وسقا من تمر ، فلما أسلم أناس من قريظة والنضير قتل رجل من بني النضير رجلا من بني قريظة ، فتحاكموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال النضيري : يا رسول الله إنا كنا نعطيهم في الجاهلية الدية فنحن نعطيهم اليوم الدية ؟ فقالت قريظة : لا ، ولكنا إخوانكم في النسب والدين ، ودماؤنا مثل دمائكم ، ولكنكم كنتم تغلبونا في الجاهلية ، فقد جاء الإسلام ، فأنزل الله تعالى يعيرهم بما فعلوا فقال ( وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس ) ( المائدة الآية 45 ) يعيرهم ، ثم ذكر قول النضيري : كنا نعطيهم في الجاهلية ستين وسقا ونقتل منهم ولا يقتلون منا فقال ( أفحكم الجاهلية يبغون ) ( المائدة الآية 50 ) فأخذ النضيري فقتله بصاحبه .

فتفاخرت النضير وقريظة فقالت النضير : نحن أقرب منكم . وقالت قريظة : نحن أكرم منكم . فدخلوا المدينة إلى أبي برزة الكاهن الأسلمي فقال المنافقون من قريظة والنضير : انطلقوا بنا إلى أبي برزة ينفر بيننا فتعالوا إليه ، فأبى المنافقون وانطلقوا إلى أبي برزة وسألوه فقال : أعظموا اللقمة . يقول : أعظموا الخطر . فقالوا : لك عشرة أو ساق قال : لا ، بل مائة وسق ديتي ، فإني أخاف أن أنفر النضير فتقتلني قريظة ، أو أنفر قريظة فتقتلني النضير . فأبوا أن يعطوه فوق عشرة أو ساق ، وأبى أن يحكم بينهم فأنزل الله { يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت } إلى قوله { ويسلموا تسليما } " .

وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم من طريق العوفي عن ابن عباس في قوله { يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت } قال : الطاغوت . رجل من اليهود كان يقال له كعب بن الأشرف ، وكانوا إذا ما دعوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول ليحكم بينهم قالوا : بل نحاكمهم إلى كعب . فذلك قوله { يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت } .

وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في الآية قال : تنازع رجل من المنافقين ورجل من اليهود فقال المنافق : اذهب بنا إلى كعب بن الأشرف ، وقال اليهودي : اذهب بنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله { ألم تر إلى الذين يزعمون . . . } الآية .

وأخرج الثعلبي عن ابن عباس في قوله { ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا . . . } الآية قال : " نزلت في رجل من المنافقين يقال له بشر ، خاصم يهوديا فدعاه اليهودي إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، ودعاه المنافق إلى كعب بن الأشرف ، ثم إنهما احتكما إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقضى لليهودي فلم يرض المنافق . وقال : تعال نتحاكم إلى عمر بن الخطاب . فقال اليهودي لعمر : قضى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يرض بقضائه . فقال للمنافق : أكذلك ؟ ! قال : نعم . فقال عمر : مكانكما حتى أخرج إليكما . فدخل عمر فاشتمل على سيفه ، ثم خرج فضرب عنق المنافق حتى برد ثم قال : هكذا أقضي لمن لم يرض بقضاء الله ورسوله : فنزلت " .

وأخرج ابن جرير عن الضحاك في قوله { يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت } قال : هو كعب بن الأشرف .

وأخرج ابن المنذر عن مجاهد قال : الطاغوت والشيطان في صورة إنسان يتحاكمون إليه وهو صاحب أمرهم .

وأخرج ابن أبي حاتم عن وهب بن منبه قال : سألت جابر بن عبد الله عن الطواغيت التي كانوا يتحاكمون إليها ؟ قال : إن في جهينة واحدا ، وفي أسلم واحدا ، وفي هلال واحدا ، وفي كل حي واحدا ، وهم كهان تنزل عليهم الشياطين .