غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ يَزۡعُمُونَ أَنَّهُمۡ ءَامَنُواْ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيۡكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبۡلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوٓاْ إِلَى ٱلطَّـٰغُوتِ وَقَدۡ أُمِرُوٓاْ أَن يَكۡفُرُواْ بِهِۦۖ وَيُرِيدُ ٱلشَّيۡطَٰنُ أَن يُضِلَّهُمۡ ضَلَٰلَۢا بَعِيدٗا} (60)

58

ثم إنه تعالى لما أوجب على المكلفين طاعته وطاعة رسوله ، وذكر أن المنافقين الذين في قلوبهم مرض لا يطيعون ولا يرضون بحكمه فقال : { ألم تر إلى الذين يزعمون } الآية . قال الليث : قولهم زعم فلان معناه لا نعرف أنه صدق أو كذب ومنه زعموا مطية الكذب . وقال ابن الأعرابي : الزعم قد يستعمل في القول المحقق لكن المراد في الآية الكذب بالاتفاق . قال أبو مسلم : ظاهر الآية يدل على أن الزاعم كان منافقاً من أهل الكتاب مثل أن يكون يهودياً أظهر الإسلام على سبيل النفاق ، لأن قوله تعالى : { يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك } إنما يليق بمثل هذا المنافق .

أما سبب النزول ففيه وجوه . والذي عليه أكثر المفسرين ما رواه الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس " أن رجلاً من المنافقين يسمى بشراً خاصم يهودياً فدعاه اليهودي إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال المنافق : بيني وبينك كعب بن الأشرف . وذلك أن اليهودي كان محقاً وكان النبي صلى الله عليه وسلم لا يقضي إلا بالحق لجلالة منصبه عن قبول الرشوة ، وكان كعب يبطل الحقوق بالرشا ، فما زال اليهودي بالمنافق حتى ذهبا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقضى لليهودي . فلما خرجا من عنده لزمه المنافق وقال : ننطلق إلى عمر بن الخطاب . فأقبلا إلى عمر فقال اليهودي : اختصمت أنا وهذا إلى محمد فقضى لي عليه فلم يرض بقضائه وزعم أنه يخاصم إليك وتعلق بي فجئت معه . فقال عمر للمنافق : أكذلك ؟ قال : نعم . فقال لهما : مكانكما حتى أخرج إليكما ، فدخل عمر فاشتمل على سيفه ثم خرج فضرب به عنق المنافق حتى برد ثم قال : هكذا أقضي لمن لم يرض بقضاء الله ورسوله وهرب اليهودي فنزلت الآية . وقالت جبريل : إن عمر فرق بين الحق والباطل فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنت الفاروق . وعلى هذا الطاغوت كعب بن الأشرف . وقال السدي : " كان ناس من اليهود أسلموا ونافق بعضهم ، وكانت قريظة والنضير في الجاهلية إذا قتل قرظي نضيرياً قتل به وأخذ ديته مائة وسق من تمر ، وإذا كان بالعكس لم يقتل به وأعصى ديته ستين وسقاً من تمر . وكانت النضير حلفاء الأوس وكانوا أكثر وأشرف من قريظة وهم حلفاء الخزرج . فقتل نضيري قرظياً واختصموا في ذلك . فقال بنو النضير : لا قصاص علينا إنما علينا ستون وسقاً من تمر على ما اصطلحنا عليه . وقالت الخزرج : هذا حكم الجاهلية ونحن وأنتم اليوم إخوة وديننا واحد ولا فضل بيننا . فقال المنافقون : انطلقوا إلى أبي برزة الكاهن الأسلمي . وقال المسلمون : لا بل إلى النبي صلى الله عليه وسلم . فأبى المنافقون فانطلقوا إلى أبي برزة ليحكم بينهم فقال : أعظموا اللقمة - يعني الرشوة - فقالوا : لك عشرة أوسق . فقال : لا بل مائة وسق ديتي فإني أخاف إن نفرت النضيري قتلتني قريضة ، وإن نفرت القرظي قتلتني النضير . فأبوا أن يعطوه فوق عشرة أوسق وأبى أن يحكم بينهم فأنزل الله هذه الآية . فدعا النبي صلى الله عليه وسلم كاهن أسلم إلى الإسلام فأبى وانصرف فقال النبي صلى الله عليه وسلم لابنيه : أدركا أباكما فإنه إن جاز عقبة كذا لم يسلم أبداً فأدركاه فلم يزالا به حتى انصرف وأسلم وأمر النبي صلى الله عليه وسلم منادياً فنادى : ألا إن كاهن أسلم قد أسلم " .

وعلى هذا القول الطاغوت هو الكاهن . وقال الحسن : إنّ رجلاً من المسلمين كان له على رجل من المنافقين حق ، فدعاه المنافق إلى وثن كان أهل الجاهلية يتحاكمون إليه ورجل قائم يترجم الأباطيل عن الوثن ، فالطاغوت ذلك الرجل . وقيل : كانوا يتحاكمون إلى الوثن يضربون القداح بحضرته ، فما خرج على القداح عملوا به فالطاغوت هو الوثن . ثم إن الطاغوت أي شيء كان من الأشياء المذكورة فإنه تعالى جعل التحاكم إليه مقابلاً للكفر به ، لكن الكفر به إيمان بالله وبرسوله فيكون نصاً في تكفير من لم يرض بقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم تشككاً أو تمرداً ويؤكده قوله بعد ذلك : { فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك } الآية . ومن هنا ذهب كثير من الصحابة إلى الحكم بارتداد مانعي الزكاة وقتلهم وسبى ذراريهم . ثم قال : { ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالاً بعيداً } فاحتجت المعتزلة به على أن كفر الكافر ليس بخلق الله وإلا لم يتوجه الذم على الشيطان ولم يحصل التعجب والتعجيب فإن لقائل أن يقول : إنما فعلوا لأجل أنك خلقت ذلك الفعل فيهم وأردته منهم بل التعجب من هذا التعجب أولى وقد عرفت الجواب مراراً .

/خ70