لما أوْجَب الطَّاعَة على جميع المُكَلَّفين في الآيةِ الأولَى ، ذكر في هذه الآيةِ أن المُنَافقين والذين في قُلُوبهم مَرَضٌ لا يُطيعُون الرَّسُولَ ، ولا يَرْضُونَ بحُكْمِهِ ، وإنما يُريدُون حُكْمَ غيره ، و " الزَّعم " بفتح الزَّاي وضمها وكسرها مصدر زَعَم ، وهو قَوْل يَقْتَرِنُ{[8502]} به اعتِقَادٌ ظَنِّيٌّ ؛ قال : [ الطويل ]
فَإنْ تَزْعُمينِي كُنْتُ أجْهَلُ فِيكُمُ{[8503]} *** فَإنِّي شَرَيْتُ الْحِلْمَ بَعْدَكَ بِالجَهْلِ{[8504]}
قال ابنُ دُرَيْد : أكثرُ ما يَقَعُ على البَاطِلِ ، وقال - عليه الصلاة والسلام - : " بِئْسَ مَطِيَّةُ الرَّجُلِ زَعَمُوا " .
وَنُبِّئْتُ قَيْساً وَلَمْ أبْلُهُ{[8505]} *** كَمَا زَعَمُوا خَيْرَ أهْلِ الْيَمَنْ{[8506]}
فقال المَمْدُوح : وما هُو إلا الزَّعْم ، وحَرَمَهُ ولم يُعْطِه شَيْئاً ، وذكر صَاحِبُ العين أنَّها تَقَع غَالِباً [ على " أنَّ " ]{[8507]} وقد تَقَعُ في الشِّعْر على الاسْمِ ، وأنشد بيت أبي ذُؤيْب ، وقول الآخر : [ الخفيف ]
زَعَمَتْنِي شَيْخاً وَلَسْتُ بِشَيْخٍ *** إنَّمَا الشَّيْخُ مَنْ يَدِبُّ دبِيبَا{[8508]}
قيل : ولا يُسْتَعْمَل في الأكْثَرِ إلا في القَوْلِ الذي لا يَتَحَقَّقُ .
قال الليث : أهْل العَرَبيَّةِ يَقُولُون : زَعم فُلانٌ ؛ إذَا شَكُّوا فيه فلم يَعْرِفُوا أكذبَ أمْ صَدَق ؛ وكذلك تَفْسِير قوله : { هَذَا للَّهِ{[8509]} بِزَعْمِهِمْ } [ الأنعام : 136 ] أي : بقولهم الكَذِب .
قال الأصْمَعِيّ : الزَّعُومُ من الغَنَم الذي لا يُعْرَفُ أبها شحم أم لا{[8510]} وقال ابن الأعْرَابِيّ : الزَّعْم قد يُسْتَعْمل في الحَقِّ ، وأنشد لأميَّة بن أبي الصَّلْت : [ المتقارب ]
وإنِّي أدينُ لَكُمْ أنَّهُ *** سَيَجْزيكُمُ رَبُّكُمْ مَا زَعَمْ{[8511]}
وزعم [ تكُون ]{[8512]} بمعنى : ظَنَّ وأخَوَاتِهَا ، فيتعَدَّى لاثْنَيْنِ في هَذِه الآيَةِ ، و " أنَّ " سادَّةٌ مَسَدَّ مفْعُوليها ، وتكون بمعْنَى " " كَفَل " فتتعدى لِوَاحِدٍ ؛ ومنه :
{ وَأَنَاْ بِهِ زَعِيمٌ } [ يوسف : 72 ] ، وبمعنى رَأس ، وكذب وسَمُن ، وهَزُلَ ، فلا تتعَدَّى ، وقرأ الجمهور : { أُنْزِلَ{[8513]} إِلَيْكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ } مبنياً للمَفْعُول ، وقُرِئا{[8514]} مبنيَّيْن للفاعِلِ ، وهو اللَّه - تعالى - .
روي في سبب النُّزُولِ وُجُوه :
أحدُها : قال الشَّعْبِي{[8515]} : كان بَيْنَ رَجُلٍ من اليَهُودِ ورَجُلٍ من المُنَافِقِين خُصُومَة ، فقال اليَهُودِيّ : نتحاكمُ إلى مُحَمَّد ؛ لأنه عَرَفَ أنَّهُ عَرَفَ أنَّهُ لا يأخُذ الرَّشْوَة ، ولا يَمِيلُ في الحُكْمِ ، وقال المُنَافِقُ : نتحَاكمُ إلى اليَهُودِِ ؛ لِعْلِمه أنَّهم يأخذُون الرَّشْوَة ويميلُون في الحُكْمِ ، فاتَّفَقَا على أن يَأتِيَا كَاهِناً في جُهَيْنَةَ ، فَيَتَحَاكَمَا إلَيْه ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآية{[8516]} .
قال جابر : كَانَتِ الطَّواغِيتُ التي يَتَحَاكَمُون إليها واحدٌ في جُهَيْنَة ، ووَاحِدٌ في أسْلَم ، وفي كُلِّ حَيٍّ واحدٌ كَهَّان{[8517]} .
وروى الكَلْبِي عن أبِي صَالِح عن ابن عبَّاسٍ : نَزَلَتْ في رَجُلٍ من المُنَافِقِين يُقال لَهُ : بشر ، كان بَيْنَهُ وبَيْنَ يَهُودِيّ خُصُومَة ، فقال اليَهُودِيّ : نَنْطَلِقُ إلى مُحَمَّد ، وقال المُنَافِق : بل إلى كَعْبِ بن الأشْرَف ، وهُوَ الذي سَمَّاهُ اللَّهُ طاغُوتاً ، فأبَى اليَهُودِيُّ أن يُخَاصِمَه إلاَّ إلى رسُول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما رَأى المُنَافِق ذَلِك ، أتَى معه إلى رسُول الله صلى الله عليه وسلم ، فَقَضَى رسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم لليهُودِيِّ ، فلما خَرَجَا من عِنْدِه ، قال المُنَافِقُ : لا أرْضَى [ بهذا الحكم ]{[8518]} فانْطلقْ بِنَا إلى أبِي بكْرٍ ، فحكم{[8519]} لليَهُودِيِّ ، فلم يَرْضَ ، ذكره الزَّجَّاج .
فَلَزِمَهُ المُنَافِقِ وقال : انْطلِقْ بَنَا إلى عُمَر ، فَصَار إلى عُمَر ، فقال اليَهُودِيُّ [ لعمر ]{[8520]} اخْتَصَمْتُ أنَا وهَذَا إلى محمَّدٍ ، فقضى [ لي ]{[8521]} عليْهِ ، فلم يَرْض بقَضَائِهِ ، وزَعَم أنه يُخَاصم إلَيْكَ ، فقال عمر : [ للمُنَافِقِ ]{[8522]} أكذلك ؟ قال : نَعَم ؛ فقال لهما : رُوَيْدَكُمَا حتى أخْرُجَ إلَيْكَما . فدخَلَ عُمَرُ البَيْتَ وأخذَ السَّيْفَ واشْتَمل عَلَيْه ، ثم خَرَجَ ، فَضَرَبَ بِهِ المُنَافِقَ حَتَّى برد ، وقال : هكذا أقْضِي بَيْن مَنْ لَمْ يَرْضَ بِقَضَاء اللَّه ورسُولِهِ ، فنَزَلَت هذه الآية{[8523]} .
وقال جِبْريل - عليه السلام - : إن عُمَر فرّق بين الحقِّ والبَاطِلِ ، فَسُمِّي الفَارُوق{[8524]} .
وقال السُّدِّي : كان نَاسٌ من اليَهُود [ قد ] أسْلَمُوا ونَافَقَ بعضُهُم ، وكانَتْ قُرَيْظَةُ والنَّضيرُ في الجَاهِليَّة ، إذا قَتَلَ رَجُلٌ من بَنِي قُرَيْظَة [ رَجُلاً من بني النَّضِير قُتِلَ بِهِ ، أو أخذ ديتَهُ مئة وَسْقٍ من تَمْرٍ ، وإذا قتل رَجُلٌ من بني النضير رَجُلاً من قُرَيْظة لم يُقْتَل بِهِ ]{[8525]} وأعْطَى ديتهُ سِتِّين وسْقاً ، وكانت النَّضِير وهم حُلَفَاءُ الأوْسِ أشْرَف وأكْثَر من قُرَيْظَة ، وهم حُلَفَاءُ الخَزْرَج ، فَلَمَّا جَاء الإسْلاَمُ ، وهاجر النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إلى المَدِينَةِ قَتَل رجُلٌ من النَّضِير{[8526]} رَجُلاً من قُرَيْظَة{[8527]} ، فاخْتَصَمُوا في ذَلِكَ ، فقال بَنُو النَّضِير : كُنَّا وأنتم اصْطَلَحْنَا على أن نَقْتُل مِنكُم ولا تَقْتُلُون مِنَّا ، وديتُكم سِتُّون وَسْقاً ، وديَتُنَا مئةُ وَسْقٍ ، فنحن نُعْطِيكُم ذَلِك .
فقالت الخَزْرج : هذا شَيْءٌ كنتم فَعَلْتُمُوه في الجَاهِليَّةِ ؛ لكَثْرَتِكُم وقِلَّتِنا فَقَهَرتُمُونا ، ونحن وأنْتُم اليَوْم إخوةٌ ، ودينُنَا ودِينُكُم وَاحِدٌ ، فلا فَضْلَ لكُم عَلَيْنَا ، فقال المُنَافِقُون مِنْهم : انْطَلِقُوا بِنَا إلى أبِي بردة الكَاهِن الأسْلمِيّ ، وقال المُسْلِمُون من الفَريقَيْن : لا بلْ إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ، فأبى المُنافِقُونَ فانْطَلَقُوا إلى أبِي بردة ليَحْكُمَ{[8528]} بَيْنَهُم ، فقال : أعْطُوا اللُّقْمَة ، يعني : الخطر ، فقالوا : لَكَ عَشْرَة أوْسُق ، فقال : لاَ بَلْ مئة وَسْقٍ ديَتِي ، فأبَوْا أن يعطوهُ فوقَ عَشْرَة أوْسُق ، فأبَى أنْ يَحْكُمَ بيْنَهُم ، فأنزَلَ اللَّه - تعالى - آيتي القِصَاصِ ، فدَعَا النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم الكَاهِن إلى الإسْلامِ فأسْلَمَ ، وعلى هذه الرِّوَايَة فالطَّاغُوتُ هو الكَاهِن{[8529]} .
وقال الحَسَن : إن رَجُلاً من المُسْلِمِينِ كان لَهُ على رَجُلٍ من المُنَافِقِين حَقٌّ ، فدَعَاهُ المُنَافِقُ إلى وَثَنٍ كان أهْلُ الجَاهِليَّةِ يَتَحَاكَمُون إلَيْهِ ، ورَجُلٌّ قائِمَ يترجَّم الأبَاطيلَ عن الوثَنِ ، فالمُرَادُ بالطَّاغُوتِ ؛ هو ذَلِكَ الرَّجُل{[8530]} ، وقيلَ : كانوا يَتَحَاكَمُون إلى الأوْثَانِ ، وكانَ طَريقُهم [ أنهم ] يَضْرِبُونَ القِدَاحَ بِحَضْرَةِ الوَثَنِ ، فما خَرَجَ على القِدَاحِ حَكَمُوا بِهِ ، وعلى هَذَا فالطَّاغُوتُ الوَثَنِ{[8531]} .
قال أبو مُسْلِم{[8532]} : ظاهر الآيَةِ يَدُلُّ على أنه كان المُخَاصِمُ منافِقاً{[8533]} من أهْلِ الكِتَاب ، كان يُظهر الإسْلامَ عَلَى سبيل النِّفَاقِ ، لأن قوله - تعالى - : { يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ } إنما يليقُ بمثل هذا المُنافِقِ .
قوله : { يُرِيدُونَ } حال من فَاعِل [ { يَزْعُمُونَ } أو من { الَّذِينَ يَزْعُمُونَ } .
وقوله : { وَقَدْ أُمِرُواْ } حال من فَاعِل ]{[8534]} { يُرِيدُونَ } فهما حالان مُتَدَاخِلان ، { أَن يَكْفُرُواْ } في مَحَلِّ نَصْب فقط إن قدَّرْت تعدية " أمر " إلى الثَّانِي بِنَفْسِه ، وإلا ففيها الخِلاَفُ المَشْهُور ، والضَّمِير في [ بِهِ ] عَائِدٌ على الطَّاغُوتِ ، وقد تقدَّم أنه يُذَكَّر ويُؤنَّث ، والكلام عليه في البَقَرة{[8535]} .
وقرأ عبَّاس بن الفضل{[8536]} : " أن يكفروا بهن " ، بضمير جَمْع التَّأنيث .
قال القاضي{[8537]} : يَجِبُ أن يَكُونَ التحَاكُم إلى الطَّاغُوتِ كالكُفرِ ، وعدم الرِّضَى [ بِحُكْمِ ]{[8538]} مُحَمَّد - عليه السلام - كُفْرٌ ؛ لوجوه :
أحدها : قوله : { يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ } فجعل التَّحاكم [ إلى لطَّاغُوت ]{[8539]} مقابلاً للكُفْر به ، وهذا يَقْتَضِي أن التَّحَاكُم إلى الطَّاغُوت كُفْر باللَّه ، كما أن الكُفْرَ بالطَّاغُون إيمانٌ باللَّهِ .
ثانيها : قوله - [ تعالى ]{[8540]} - :
{ فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً } [ النساء : 65 ] وهذا نَصٌّ في تكْفِير من لَمْ يَرْضَ بحُكْم الرَّسُول - عليه الصلاة والسلام - .
{ فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }
[ النور : 63 ] وهذه الآياتُ تَدُلُّ على أنَّ من رَدَّ شيئاً من أوَامِرِ اللَّه والرَّسُول فهُو خَارِجٌ عن الإسْلام ، سواءٌ رَدَّهُ من جِهَةِ الشِّرْكِ أو من جِهَةِ التَّمَرُّد ، وذلك يُوجِبُ صِحَّة ما ذَهَبَتْ إليه الصَّحَابَة - رضي الله عنهم - من الحُكْمِ بارْتِدَادِ مَانِعِي الزَّكاة ، وقَتْلِهم ، وسَبْي ذراريهم .
قوله : { أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً } في { ضَلاَلاً } ثلاثة أقوال :
أحدُها : أنه مصْدَرٌ على غير المَصْدَر{[8541]} ، نحو : { أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأَرْضِ نَبَاتاً }
[ نوح : 17 ] ، والأصْل " إضلالاً " و " إنباتاً " فهو [ اسْم ]{[8542]} مصدر لا مَصْدَر .
والثاني : أنه مَصْدَر لمطَاوع{[8543]} { أَضَلَّ } أي : أضَلَّهُم فَضَلُّوا ضَلاَلاً .
والثالث : أن يَكُون من وَضْعِ أحد المَصْدَرَيْن مَوْضِع الآخَر .
قالت المعتزِلَةُ{[8544]} : قوله - تعالى - : { وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً } يدُلُّ على أن كُفْر الكَافِرِ ليس بِخَلْق [ الله - تعالى - ]{[8545]} ولا بإرَادَته ؛ لأنه لو خَلَقَ الكُفْر في الكَافِرِ وأرَادَهُ منه ، فأيُّ تأثيرٍ للشَّيْطَانِ فيه ، وأيضاً فإنَّه ذَمٌّ للشيطان ؛ بسبب أنَّه يُريد هذه الضَّلالة ، فلو كان - تعالى - مُرِيداً لها ، لَكَانَ هُو بالذَّمِّ أوْلى ، لأن [ كُلَّ ]{[8546]} من عابَ شيئاً ثم فَعلَهُ ، كان بالذَّمِّ أوْلَى به ؛ قال - تعالى - : { كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ } [ الصف : 3 ] وأيضاً فإنَّه تعَجُّبٌ من تحاكُمِهِم إلى الطَّاغُوتِ ، مع أنَّهمُ أمِرُوا أن يَكْفُرُوا به ، ولو كَانَ ذلك التَّحاكُم بِخَلْقِ اللَّهِ ، لما بقي التَّعَجُّب ، فإنه يُقالُ : إنك خَلَقْتَ ذلك الفِعْلَ فيهم ، وأرَدْتَهُ مِنْهُم ، بل التَّعَجُّب من هذا التَّعَجُّب [ هو ]{[8547]} أولى . وجوابُهم المُعارضَة بالعِلْم والدَّاعِي .