البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ يَزۡعُمُونَ أَنَّهُمۡ ءَامَنُواْ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيۡكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبۡلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوٓاْ إِلَى ٱلطَّـٰغُوتِ وَقَدۡ أُمِرُوٓاْ أَن يَكۡفُرُواْ بِهِۦۖ وَيُرِيدُ ٱلشَّيۡطَٰنُ أَن يُضِلَّهُمۡ ضَلَٰلَۢا بَعِيدٗا} (60)

الزعم : قول يقترن به الاعتقاد الظني .

وهو بضم الزاي وفتحها وكسرها .

قال الشاعر وهو أبو ذؤيب الهذلي :

فإن تزعميني كنت أجهل فيكم *** فإني شريت الحلم بعدك بالجهل

وقال ابن دريد : أكثر ما يقع على الباطل .

وقال النبي صلى الله عليه وسلم : « مطية الرجل زعموا » وقال الأعشى :

ونبئت قيساً ولم أبله *** كما زعموا خير أهل اليمن

فقال الممدوح وما هو إلا الزعم وحرمه .

وإذا قال سيبويه : زعم الخليل ، فإنما يستعملها فيما انفرد الخليل به ، وكان أقوى .

وذكر صاحب العين : أنَّ الأحسن في زعم أنْ توقع على أنْ قال ، قال .

وقد توقع في الشعر على الاسم .

وأنشد بيت أبي ذؤيب هذا وقول الآخر :

زعمتني شيخاً ولست بشيخ *** إنما الشيخ من يدب دبيبا

ويقال : زعم بمعنى كفل ، وبمعنى رأس ، فيتعدى إلى مفعول واحد مرة ، وبحرف جر أخرى .

ويقال : زعمت الشاة أي سمنت ، وبمعنى هزلت ، ولا يتعدى .

{ ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالاً بعيداً } ذكر في سبب نزولها قصص طويل ملخصه : أنّ أبا بردة الأسلمي كان كاهناً يقضي بين اليهود ، فتنافر إليه نفر من أسلم ، أو أنّ قيساً الأنصاري أحد مَن يدعي الإسلام ورجلاً من اليهود تداعيا إلى الكاهن وتركا الرسول صلى الله عليه وسلم بعدما دعا اليهودي إلى الرسول ، والأنصاري يأبى إلا الكاهن .

أو أنّ منافقاً ويهودياً اختصما ، فاختار اليهودي الرسول صلى الله عليه وسلم ، واختار المنافق كعب بن الأشرف ، فأبى اليهودي ، وتحاكما إلى الرسول ، فقضى لليهودي ، فخرجا ولزمه المنافق ، وقال : ننطلق إلى عمر ، فانطلقا إليه فقال اليهودي : قد تحاكمنا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فلم يرض بقضائه ، فأقرّ المنافق بذلك عند عمر ، فقتله عمر وقال : هكذا أقضي فيمن لم يرض بقضاء الله وقضاء رسوله .

ومناسبة هذه الآية لما قبلها ظاهرة لأنه تعالى لما أمر المؤمنين بطاعة الله ورسوله وأولي الأمر ، ذكر أنه يعجب بعد ورود هذا الأمر من حال مَن يدَّعي الإيمان ويريد أن يتحاكم إلى الطاغوت ويترك الرسول .

وظاهر الآية يقتضي أن تكون نزلت في المنافقين ، لأنه قال : يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك ، فلو كانت في يهود أو في مؤمن ويهودي كان ذلك بعيداً من لفظ الآية ، إلا إنْ حمل على التوزيع ، فيجعل بما أنزل إليك في منافق ، وما أنزل من قبلك في يهودي ، وشملوا في ضمير يزعمون فيمكن .

وقال السدي : نزلت في المنافقين من قريظة والنضير ، تفاخروا بسبب تكافؤ دمائهم ، إذ كانت النضير في الجاهلية تدي من قتلت وتستقيه إذا قتلت قريظة منهم ، فأبت قريظة لما جاء الإسلام ، وطلبوا المنافرة ، فدعا المؤمنون منهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، ودعا المنافقون إلى بردة الكاهن ، فنزلت .

وقال الحسن : احتكم المنافقون بالقداح التي يضرب بها عند الأوثان فنزلت .

أو لسبب اختلافهم في أسباب النزول اختلفوا في الطاغوت .

فقيل : كعب بن الأشرف .

وقيل : الأوثان .

وقيل : ما عبد من دون الله .

وقيل : الكهان .

{ وقد أمروا أن يكفروا به } جملة حالية من قوله : يريدون ، ويريدون حال ، فهي حال متداخل .

وأعاد الضمير هنا مذكراً ، وأعاده مؤنثاً في قوله : اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها .

وقرأ بها هنا عباس بن الفضل على التأنيث ، وأعاد الضمير كضمير جمع العقلاء في قوله : { أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم }

{ ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالاً بعيداً } ضلالاً ليس جارياً على يضلهم ، فيحتمل أن يكون جعل مكان إضلال ، ويحتمل أن يكون مصدر المطاوع يضلهم ، أي : فيضلون ضلالاً بعيداً .

وقرأ الجمهور : بما أنزل إليك وما أنزل مبنياً للمفعول فيهما .

وقرئ : مبنياً للفاعل فيهما .