قوله تعالى : { ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه } . معناه هل انتهى إليك يا محمد خبر الذي حاج إبراهيم ؟ أي خاصم وجادل ، وهو نمرود وهو أول من وضع التاج على رأسه ، وتجبر في الأرض وادعى الربوبية .
قوله تعالى : { أن آتاه الله الملك } . أي لأن آتاه الله الملك فطغى ، أي كانت تلك المحاجة من بطر الملك وطغيانه ، قال مجاهد : ملك الأرض أربعة : مؤمنان وكافران ، فأما المؤمنان فسليمان وذو القرنين ، وأما الكافران : فنمرود وبختنصر . واختلفوا في وقت هذه المناظرة ، قال مقاتل : لما كسر إبراهيم الأصنام سجنه نمرود ، ثم أخرجه ليحرقه بالنار فقال له : من ربك الذي تدهونا إليه ؟ فقال : ربي الذي يحيي ويميت ، وقال آخرون : كان هذا بعد إلقائه في النار ، وذلك أن الناس قحطوا على عهد نمرود ، وكان الناس يمتارون من عنده الطعام ، فكان إذا أتاه الرجل في طلب الطعام سأله : من ربك ؟ فإن قال : أنت ، باع منه الطعام ، فأتاه إبراهيم فيمن أتاه فقال له نمرود : من ربك ؟ قال : ربي الذي يحيي ويميت ، فاشتغل بالمحاجة ولم يعطه شيئاً فرجع إبراهيم فمر على كثيب من رمل أعفر فأخذ منه تطييباً لقلوب أهله إذا دخل عليهم ، فلما أتى أهله ووضع متاعه نام ، فقامت امرأته إلى متاعه ففتحته فإذا هو أجود طعام ما رأته ، فأخذته فصنعت له منه فقربته إليه فقال : من أين هذا ؟ قالت : من الطعام الذي جئت به ، فعرف أن الله رزقه ، فحمد الله .
قال الله تعالى : { إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت } . وهذا جواب سؤال غير مذكور تقديره قال له : من ربك ؟ فقال إبراهيم : ربي الذي يحيي ويميت ، قرأ حمزة ، ( ربي الذي يحيي ويميت ) ، بإسكان الياء ، وكذلك ( حرم ربي الفواحش ) ، ( وعن آياتي الذين يتكبرون ) ، ( و قل لعبادي الذين ) ، ( وآتاني الكتاب ) ، ( ومسني الضر ) ، ( وعبادي الصالحون ) ، ( وعبادي الشكور ) ، ( ومسني الشيطان ) ، ( و إن أرادني الله ) ، ( وإن أهلكني الله ) أسكن الياء فيهن حمزة ، ووافق ابن عامر والكسائي في ( لعبادي الذين آمنوا ) ، وابن عامر ( آياتي الذين ) وفتحها الآخرون .
قوله تعالى : { قال } . نمرود .
قوله تعالى : { أنا أحيي وأميت } . قرأ أهل المدينة " أنا " بإثبات الألف والمد في الوصل إذا تلتها مفتوحة أو مضمومة ، والباقون بحذف الألف ، ووقفوا جميعا بالألف ، قال أكثر المفسرين : دعا نمرود برجلين فقتل أحدهما واستحيا الآخر ، فجعل القتل إماتة وترك القتل إحياء ، فانتقل إبراهيم إلى حجة أخرى ليعجزه ، فإن حجته كانت لازمة لأنه أراد بالأحياء إحياء الميت ، فكان له أن يقول : فأحي من أمت إن كنت صادقاً ، فانتقل إلى حجه أخرى أوضح من الأولى .
قوله تعالى : { قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر } . أي تحير ودهش وانقطعت حجته . فإن قيل : كيف بهت وكان يمكنه أن يعارض إبراهيم فيقول له : سل أنت ربك حتى يأتي بها من المغرب ؟ قيل : إنما لم يقله لأنه خاف أن لو سأل ذلك دعا إبراهيم ربه فكان زيادة في فضيحته ، وانقطاعه ، والصحيح أن الله صرفه عن تلك المعارضة إظهاراً للحجة عليه ، أو معجزة لإبراهيم عليه السلام . قوله تعالى : { والله لا يهدي القوم الظالمين } .
هذا الذي حاج إبراهيم في ربه وهو ملك بابل : نمروذ بن كنعان بن كُوش بن سام بن نوح . ويقال : نمرود بن فالخ بن عابر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح والأول قول مجاهد وغيره .
قال مجاهد : وملك الدنيا مشارقها ومغاربها أربعة : مؤمنان وكافران فالمؤمنان : سليمان بن داود وذو القرنين . والكافران : نمرود [ بن كنعان ]{[2]} وبختنصر . فالله أعلم .
ومعنى قوله : { أَلَمْ تَرَ } أي : بقلبك يا محمد { إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ } أي : [ في ]{[3]} وجود ربه . وذلك أنه أنكر أن يكون ثم إله غيره كما قال بعده فرعون لملئه : { مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي } [ القصص : 38 ] وما حمله على هذا الطغيان والكفر الغليظ والمعاندة الشديدة إلا تجبره ، وطول مدته في الملك ؛ وذلك أنه يقال : إنه مكث أربعمائة سنة في ملكه ؛ ولهذا قال : { أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ } وكأنه طلب من إبراهيم دليلا على وجود الرب الذي يدعو إليه فقال إبراهيم : { رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ } أي : الدليل على وجوده حدوث هذه الأشياء المشاهدة بعد عدمها ، وعدمها بعد وجودها . وهذا دليل على وجود الفاعل المختار ضرورة ؛ لأنها لم تحدث بنفسها فلا بد لها من موجد أوجدها وهو الرب الذي أدعو إلى عبادته وحده لا شريك له . فعند ذلك قال المحاج{[4]} - وهو النمروذ - : { أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ }
قال قتادة ومحمد بن إسحاق والسدي وغير واحد : وذلك أني{[5]} أوتى بالرجلين قد استحقا القتل فآمر بقتل أحدهما فيقتل ، وبالعفو عن الآخر فلا يقتل . فذلك معنى الإحياء والإماتة .
والظاهر - والله أعلم - أنه ما أراد هذا ؛ لأنه ليس جوابًا لما قال إبراهيم ولا في معناه ؛ لأنه غير مانع لوجود الصانع . وإنما أراد أن يَدّعي لنفسه هذا المقام عنادًا ومكابرة ويوهم أنه الفاعل لذلك وأنه هو الذي يحيي ويميت ، كما اقتدى به فرعون في قوله : { مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي } ولهذا قال له إبراهيم لما ادعى هذه المكابرة : { فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ } أي : إذا كنت كما تدعي من أنك [ أنت الذي ]{[6]} تحيي وتميت فالذي يحيي ويميت هو الذي يتصرف في الوجود في خلق ذواته وتسخير كواكبه وحركاته فهذه الشمس تبدو كل يوم من المشرق ، فإن كنت إلهًا كما ادعيت تحيي وتميت فأت بها من المغرب . فلما علم عجزه وانقطاعه ، وأنه لا يقدر على المكابرة في هذا المقام بهت أي : أخرس فلا يتكلم ، وقامت عليه الحجة . قال الله تعالى{[7]} { وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } أي : لا يلهمهم حجة ولا برهانًا بل حجتهم داحضة عند ربهم ، وعليهم غضب ولهم عذاب شديد .
وهذا التنزيل على هذا المعنى أحسن مما ذكره كثير من المنطقيين : أن عدول إبراهيم عن المقام الأول إلى المقام الثاني انتقال من دليل إلى أوضح منه ، ومنهم من قد يطلق عبارة ردية . وليس كما قالوه بل المقام الأول يكون كالمقدمة للثاني ويُبَيّن بطلان ما ادعاه نمروذ في الأول والثاني ، ولله الحمد والمنة .
وقد ذكر السدي أن هذه المناظرة كانت بين إبراهيم ونمروذ بعد خروج إبراهيم من النار ولم يكن اجتمع بالملك إلا في ذلك اليوم فجرت بينهما هذه المناظرة .
وروى عبد الرزاق عن معمر عن زيد بن أسلم : أن النمروذ كان عنده{[8]} طعام وكان الناس يغدون{[9]} إليه للميرة فوفد إبراهيم في جملة من وفد للميرة فكان بينهما هذه المناظرة ولم يعط إبراهيم من الطعام كما أعطى الناس بل خرج وليس معه شيء من الطعام ، فلما قرب من أهله عمد إلى كثيب من التراب فملأ منه عدليه وقال : أشغل أهلي عني إذا قدمت عليهم فلما قدم وضع رحاله وجاء فاتكأ فنام . فقامت امرأته سارة إلى العدلين فوجدتهما ملآنين طعامًا طيبًا فعملت منه طعاما . فلما استيقظ إبراهيم وجد الذي قد أصلحوه فقال : أنى لكم هذا ؟ قالت : من الذي جئت به . فعرف أنه رزق رزقهموه الله عز وجل . قال{[10]} زيد بن أسلم : وبعث الله إلى ذلك الملك الجبار ملكا يأمره بالإيمان بالله فأبى عليه ثم دعاه الثانية فأبى ثم الثالثة فأبى وقال : اجمع جموعك وأجمع جموعي . فجمع النمروذ جيشه وجنوده وقت طلوع الشمس ، وأرسل الله عليهم بابا من البعوض بحيث لم يروا عين الشمس وسلطها الله عليهم فأكلت لحومهم ودماءهم وتركتهم عظاما بادية ، ودخلت واحدة منها في منخري الملك فمكثت في منخريه أربعمائة سنة ، عذبه الله بها فكان يضرب رأسه بالمرازب في هذه المدة كلها حتى أهلكه الله بها .
{ ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه } تعجيب من محاجة نمرود وحماقته . { أن آتاه الله الملك } لأن آتاه أي أبطره إيتاء الملك وحمله على المحاجة ، أو حاج لأجله شكرا له على طريقة العكس كقولك عاديتني لأني أحسنت إليك ، أو وقت أن آتاه الله الملك وهو حجة على من منع إيتاء الله الملك الكافر من المعتزلة . { إذ قال إبراهيم } ظرف ل{ حاج } ، أو بدل من { أن آتاه الله الملك } على الوجه الثاني . { ربي الذي يحيي ويميت } بخلق الحياة والموت في الأجساد . وقرأ حمزة " رب " بحذف الياء . { قال أنا أحيي وأميت } بالعفو عن القتل وبالقتل . وقرأ نافع " أنا " بلا ألف . { قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب } أعرض إبراهيم عليه الصلاة والسلام عن الاعتراض على معارضته الفاسدة إلى الاحتجاج بما لا يقدر فيه على نحو هذا التمويه دفعا للمشاغبة ، وهو في الحقيقة عدول عن مثال خفي إلى مثال جلي من مقدوراته التي يعجز عن الإتيان بها غيره ، لا عن حجة إلى أخرى . ولعل نمروذ زعم أنه يقدر أن يفعل كل جنس يفعله الله فنقضه إبراهيم بذلك ، وإنما حمله عليه بطر الملك وحماقته ، أو اعتقاد الحلول . وقيل لما كسر إبراهيم عليه الصلاة والسلام الأصنام سجنه أياما ثم أخرجه ليحرقه ، فقال له من ربك الذي تدعو إليه وحاجه فيه . { فبهت الذي كفر } فصار مبهوتا . وقرئ { فبهت } أي فغلب إبراهيم الكافر . { والله لا يهدي القوم الظالمين } الذين ظلموا أنفسهم بالامتناع عن قبول الهداية . وقيل لا يهديهم محجة الاحتجاج أو سبيل النجاة ، أو طريق الجنة يوم القيامة .