الأولى : قوله تعالى : " ألم تر " هذه ألف التوقيف ، وفي الكلام معنى التعجب{[2418]} ، أي اعجبوا له . وقال الفراء : " ألم تر " بمعنى هل رأيت ، أي هل رأيت الذي حاج إبراهيم ، وهل رأيت الذي مر على قرية ، وهو النمروذ{[2419]} بن كوش بن كنعان بن سام بن نوح ملك زمانه وصاحب النار والبعوضة ، هذا قول ابن عباس ومجاهد وقتادة والربيع والسدي وابن إسحاق وزيد بن أسلم وغيرهم . وكان إهلاكه لما قصد المحاربة مع الله تعالى بأن فتح الله تعالى عليه باباً من البعوض فستروا{[2420]} عين الشمس وأكلوا عسكره ولم يتركوا إلا العظام ، ودخلت واحدة منها في دماغه فأكلته حتى صارت مثل الفأرة ، فكان أعز الناس عنده بعد ذلك من يضرب دماغه بمطرقة عتيدة لذلك ، فبقي في البلاء أربعين يوما . قال ابن جريح : هو أول ملك في الأرض . قال ابن عطية : وهذا مردود . وقال قتادة : هو أول من تجبر وهو صاحب الصرح ببابل . وقيل : إنه ملك الدنيا بأجمعها ، وهو أحد الكافرين{[2421]} ، والآخر بختنصر . وقيل : إن الذي حاج إبراهيم نمروذ بن فالخ بن عابر بن شالخ بن أرفخشد بن سام ، حكى جميعه ابن عطية . وحكى السهيلي أنه النمروذ بن كوش بن كنعان بن حام بن نوح وكان ملكاً على السواد{[2422]} وكان ملكه الضحاك الذي يعرف بالازدهاق واسمه بيوراسب بن أندراست وكان ملك الأقاليم كلها ، وهو الذي قتله أفريدون بن أثفيان ، وفيه يقول حبيب{[2423]} :
وكأنه الضّحّاك من فَتَكَاتِه *** في العالمين وأنت أَفْرِيدُونُ
وكان الضحاك طاغيا جبارا ودام ملكه ألف عام فيما ذكروا . وهو أول من صلب وأول من قطع الأيدي والأرجل ، وللنمروذ ابن لصلبه يسمى [ كوشا ] أو نحو هذا الاسم ، وله ابن يسمى نمروذ الأصغر . وكان ملك نمروذ الأصغر عاما واحدا ، وكان ملك نمروذ الأكبر أربعمائة عام فيما ذكروا . وفي قصص هذه المحاجة روايتان : إحداهما أنهم خرجوا إلى عيد لهم فدخل إبراهيم على أصنامهم فكسرها ؛ فلما رجعوا قال لهم : أتعبدون ما تنحتون ؟ فقالوا : فمن تعبد ؟ قال : أعبد ربي{[2424]} الذي يحيي ويميت . وقال بعضهم : إن نمروذ كان يحتكر الطعام فكانوا إذا احتاجوا إلى الطعام يشترونه منه ، فإذا دخلوا عليه سجدوا له ، فدخل إبراهيم فلم يسجد له ، فقال : مالك لا تسجد لي قال : أنا لا أسجد إلا لربي . فقال له نمروذ : من ربك ؟ قال إبراهيم : ربي الذي يحيي ويميت . وذكر زيد بن أسلم أن النمروذ هذا قعد يأمر الناس بالميرة{[2425]} ، فكلما جاء قوم يقول : من ربكم وإلهكم ؟ فيقولون أنت ، فيقول : مِيرُوهُم . وجاء إبراهيم عليه السلام يَمْتَار فقال له : من ربك وإلهك ؟ قال إبراهيم : ربي الذي يحيي ويميت ، فلما سمعها نمروذ قال : أنا أحيي وأميت ، فعارضه إبراهيم بأمر الشمس فبهت الذي كفر ، وقال لا تُميروه ، فرجع إبراهيم إلى أهله دون شيء فمر على كثيب رمل كالدقيق فقال في نفسه : لو ملأت غرارتي من هذا فإذا دخلت به فرح الصبيان حتى أنظر لهم ، فذهب بذلك فلما بلغ منزله فرح الصبيان وجعلوا يلعبون فوق الغرارتين ونام هو من الإعياء ، فقالت امرأته : لو صنعت له طعاما يجده حاضرا إذا انتبه ، ففتحت إحدى الغرارتين فوجدت أحسن ما يكون من الحوارى{[2426]} فخبزته ، فلما قام وضعته بين يديه فقال : من أين هذا ؟ فقالت : من الدقيق الذي سقت . فعلم إبراهيم أن الله تعالى يسر لهم ذلك . قلت : وذكر أبو بكر بن أبي شيبة عن أبي صالح قال : انطلق إبراهيم النبي عليه السلام يمتار فلم يقدر على الطعام ، فمر بسهلة{[2427]} حمراء فأخذ منها ثم رجع إلى أهله فقالوا : ما هذا ؟ فقال : حنطة حمراء ، ففتحوها فوجدوها حنطة حمراء ، قال : وكان إذا زرع منها شيئا جاء سنبله من أصلها إلى فرعها حباً متراكباً . وقال الربيع وغيره في هذا القصص : إن النمروذ لما قال أنا أحيي وأميت أحضر رجلين فقتل أحدهما وأرسل الآخر فقال : قد أحييت هذا وأمت هذا ، فلما رد عليه بأمر الشمس بهت . وروي في الخبر : أن الله تعالى قال وعزتي وجلالي لا تقوم الساعة حتى آتي بالشمس من المغرب ليعلم أني أنا القادر على ذلك . ثم أمر نمروذ بإبراهيم فألقي في النار ، وهكذا عادة الجبابرة فإنهم إذا عورضوا بشيء وعجزوا عن الحجة اشتغلوا بالعقوبة ، فأنجاه الله من النار ، على ما يأتي{[2428]} . وقال السدي : إنه لما خرج إبراهيم من النار أدخلوه على الملك - ولم يكن قبل ذلك دخل عليه - فكلمه وقال له : من ربك ؟ فقال : ربي الذي يحيي ويميت . قال النمروذ : أنا أحيي وأميت ، وأنا آخذ أربعة نفر فأدخلهم بيتا ولا يطعمون شيئا ولا يسقون حتى إذا جاعوا أخرجتهم فأطعمت اثنين فحييا ، وتركت اثنين فماتا . فعارضه إبراهيم بالشمس فبهت . وذكر الأصوليون في هذه الآية أن إبراهيم عليه السلام لما وصف ربه تعالى بما هو صفة له من الإحياء والإماتة لكنه أمر له حقيقة ومجاز ، قصد إبراهيم عليه السلام إلى الحقيقة ، وفزع نمروذ إلى المجاز وموه على قومه ، فسلم له إبراهيم تسليم الجدل وانتقل معه من المثال ، وجاءه بأمر لا مجاز فيه " فبهت الذي كفر " أي انقطعت حجته ولم يمكنه أن يقول أنا الآتي بها من المشرق ؛ لأن ذوي الألباب يكذبونه .
الثانية : هذه الآية تدل على جواز تسمية الكافر ملكا إذا آتاه الملك والعز والرفعة في الدنيا ، وتدل على إثبات المناظرة والمجادلة وإقامة الحجة . وفي القرآن والسنة من هذا كثير لمن تأمله ، قال الله تعالى : " قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين " {[2429]} [ البقرة : 111 ] . " إن عندكم من سلطان " {[2430]} [ يونس : 68 ] أي من حجة . وقد وصف خصومة إبراهيم عليه السلام قومه ورده عليهم في عبادة الأوثان كما في سورة [ الأنبياء ] وغيرها . وقال في قصة نوح عليه السلام : " قالوا يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا " {[2431]} [ هود : 32 ] الآيات إلى قوله : " وأنا بريء مما تجرمون " [ هود : 35 ] . وكذلك مجادلة موسى مع فرعون إلى غير ذلك من الآي . فهو كله تعليم من الله عز وجل السؤال والجواب والمجادلة في الدين ؛ لأنه لا يظهر الفرق بين الحق والباطل إلا بظهور حجة الحق ودحض حجة الباطل . وجادل رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الكتاب وباهلهم{[2432]} بعد الحجة ، على ما يأتي بيانه في " آل عمران " . وتحاج آدم وموسى فغلبه آدم بالحجة . وتجادل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم السقيفة وتدافعوا وتقرروا وتناظروا حتى صدر{[2433]} الحق في أهله ، وتناظروا بعد مبايعة أبي بكر في أهل الردة ، إلى غير ذلك مما يكثر إيراده . وفي قول الله عز وجل : " فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم " [ آل عمران : 66 ] دليل على أن الاحتجاج بالعلم مباح شائع{[2434]} لمن تدبر . قال المزني صاحب الشافعي : ومن حق المناظرة أن يراد بها الله عز وجل وأن يقبل منها ما تبين . وقالوا : لا تصح المناظرة ويظهر الحق بين المتناظرين حتى يكونوا متقاربين أو مستويين في مرتبة واحدة من الدين والعقل والفهم والإنصاف ، وإلا فهو مراء ومكابرة . قراءات - قرأ علي بن أبي طالب " ألم تر " بجزم الراء ، والجمهور بتحريكها ، وحذفت الياء للجزم . " أن آتاه الله الملك " في موضع نصب ، أي لأن آتاه الله ، أو من أجل أن آتاه الله . وقرأ جمهور القراء " أن أحيي " بطرح الألف التي بعد النون من " أنا " في الوصل ، وأثبتها نافع وابن أبي أويس ، إذا لقيتها همزة في كل القرآن إلا في قوله تعالى : " إن أنا إلا نذير " {[2435]} [ الأعراف : 188 ] فإنه يطرحها في هذا الموضع مثل سائر القراء لقلة ذلك ، فإنه لم يقع منه في القرآن إلا ثلاثة مواضع أجراها مجرى ما ليس بعده همزة لقلته فحذف الألف في الوصل . قال النحويون : ضمير المتكلم الاسم فيه الهمزة والنون ، فإذا قلت : أنا أو أنه فالألف والهاء لبيان الحركة في الوقف ، فإذا اتصلت الكلمة بشيء سقطتا ؛ لأن الشيء الذي تتصل به الكلمة يقوم مقام الألف ، فلا يقال : أنا فعلت بإثبات الألف إلا شاذاً في الشعر كما قال الشاعر :
أنا سيف العشيرة فاعرفوني *** حميداً قد تَذَرَّيْتُ السّناما{[2436]}
قال النحاس : على أن نافعاً قد أثبت الألف فقرأ " أنا أحيي وأميت " ولا وجه له . قال مكي : والألف زائدة عند البصريين ، والاسم المضمر عندهم الهمزة والنون وزيدت الألف للتقوية . وقيل : زيدت للوقف لتظهر حركة النون . والاسم عند الكوفيين " أنا " بكماله ، فنافع في إثبات الألف على قولهم على الأصل ، وإنما حذف الألف من حذفها تخفيفاً ؛ ولأن الفتحة تدل عليها . قال الجوهري : وأما قولهم " أنا " فهو اسم مكنى وهو للمتكلم وحده ، وإنما بني على الفتح فرقا بينه وبين " أن " التي هي حرف ناصب للفعل ، والألف الأخيرة إنما هي لبيان الحركة في الوقف ، فإن توسطت الكلام سقطت إلا في لغة رديئة{[2437]} ؛ كما قال :
أنا سيف{[2438]} العشيرة فاعرفوني *** حميداً قد تذريت السناما
وبَهُت الرجل وبَهِت وبُهت إذا انقطع وسكت متحيراً ؛ عن النحاس وغيره . وقال الطبري : وحكي عن بعض العرب في هذا المعنى " بَهَت " بفتح الباء والهاء . قال ابن جني قرأ أبو حيوة : " فبهت الذي كفر " بفتح الباء وضم الهاء ، وهي لغة في " بهت " بكسر الهاء . قال : وقرأ ابن السميقع " فبهت " بفتح الباء والهاء على معنى فبهت إبراهيم الذي كفر ؛ فالذي في موضع نصب . قال : وقد يجوز أن يكون بَهَت بفتحها لغة في بَهُت . قال : وحكى أبو الحسن الأخفش قراءة " فبهت " بكسر الهاء كغرق{[2439]} ودهش . قال : والأكثرون بالضم في الهاء . قال ابن عطية : وقد تأول قوم في قراءة من قرأ " فبهت " بفتحها أنه بمعنى سب وقذف ، وأن نمروذ هو الذي سب حين انقطع ولم تكن له حيلة .