فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِي حَآجَّ إِبۡرَٰهِـۧمَ فِي رَبِّهِۦٓ أَنۡ ءَاتَىٰهُ ٱللَّهُ ٱلۡمُلۡكَ إِذۡ قَالَ إِبۡرَٰهِـۧمُ رَبِّيَ ٱلَّذِي يُحۡيِۦ وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا۠ أُحۡيِۦ وَأُمِيتُۖ قَالَ إِبۡرَٰهِـۧمُ فَإِنَّ ٱللَّهَ يَأۡتِي بِٱلشَّمۡسِ مِنَ ٱلۡمَشۡرِقِ فَأۡتِ بِهَا مِنَ ٱلۡمَغۡرِبِ فَبُهِتَ ٱلَّذِي كَفَرَۗ وَٱللَّهُ لَا يَهۡدِي ٱلۡقَوۡمَ ٱلظَّـٰلِمِينَ} (258)

ألم تر إلى الّذي حاجّ إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك إذ قال إبراهيم ربّي الذي يحي ويميت قال أنا أحي أميت قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين 258

( ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه ) في هذه الآية استشهاد على ما تقدم ذكره من أن الكفرة أولياؤهم الطاغوت ، وهمزة الاستفهام لإنكار النفي وتقرير المنفي أي ألم ينته علمك أو نظرك إلى هذا الذي صدرت منه هذه المحاجة ، وألم تر : كلمة يوقف بها المخاطب على تعجب منها ولفظها استفهام ، قال الفراء : ألم تر بمعنى هل رأيت أي هل رأيت الذي حاج إبراهيم وهو النمرود بن كوش ابن كنعان بن سام بن نوح ، وقيل إنه النمرود بن فالخ بن شانج بن أرفخشد ابن سام ، وهو أول من وضع التاج على رأسه وتجبر في الأرض وادعى الربوبية وكان ابن زنا .

( أن أتاه الله الملك ) أي لأن آتاه الله أو من أجل أن آتاه الله على معنى أن إيتاء الملك أبطره وأورثه الكبر والعتو ، فحاج لذلك أو على أنه وضع المحاجة التي هي أقبح وجوه الكفر موضع ما يجب عليه من الشكر ، كما يقال عاديتني لأني أحسنت إليك .

قال مجاهد : ملك الأرض أربعة : مؤمنان سليمان وذو القرنين ، وكافران نمرود وبخت نصر ، واختلفوا في وقت المحاجة فقيل لما كسر إبراهيم الأصنام وقيل بعد إلقائه في النار ، وكان مدة ملكه أربعمائة سنة .

( إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت قال أنا أحيي وأميت ) أراد إبراهيم عليه السلام أن الله هو الذي يخلق الحياة والموت في الأجساد ، وأراد الكافر أنه يقدر على أن يعفو عن القتل فيكون ذلك إحياء ، وعلى أن يقتل فيكون ذلك إماتة ، فكان هذا جوابا أحمق لا يصح نصبه في مقابلة حجة إبراهيم لأنه أراد غير ما أراده الكافر ، فلو قال له ربي الذي يخلق الحياة والموت في الأجساد فهل تقدر على ذلك لبهت الذي كفر بادئ بدء وفي أول وهلة ولكنه انتقل معه إلى حجة أخرى أوضح منها تنفيسا لخناقه وإرسالا لعنان المناظرة{[260]} .

( قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب ) لكون هذه الحجة لا تجري فيها المغالطة ولا يتيسر للكافر ان يخرج عنها بمخرج مكابرة ومشاغبة وتمويها وتلبيسا على العوام .

( فبهت الذي كفر ) بهت الرجل وبهت و بهت إذا انقطع وسكت متحيرا ، وقال ابن عطية : وقد تأول قوم في قراءة بهت بالفتح أنه بمعنى سب وقذف وأن النمرود هو الذي سب حين انقطع ولم تكن له حيلة انتهى .

وقال سبحانه ( فبهت الذي كفر ) ولم يقل فبهت الذي حاج إشعارا بأن تلك المحاجة كفر ، وقيل هذا الفعل من جملة الأفعال التي جاءت على صورة المبني للمفعول ، والمعنى فيها على البناء للفاعل ، والبهت الانقطاع والحيرة وهو مبهوت لا باهت ولا بهيت .

( والله لا يهدي القوم الظالمين ) تذييل مقرر لمضمون الجملة التي قبله .


[260]:وقال ابن الجوزي تعليقا على هذا الموضوع: ان ابراهيم رأى من فساد معارضته امرا يدل على ضعف فهمه فإنه عارض اللفظ بمثله ونسي اختلاف الفعلين فانتقل الى حجة أخرى قصدا لقطع المحاج لا عجزا عن نصرة الأولى.