غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِي حَآجَّ إِبۡرَٰهِـۧمَ فِي رَبِّهِۦٓ أَنۡ ءَاتَىٰهُ ٱللَّهُ ٱلۡمُلۡكَ إِذۡ قَالَ إِبۡرَٰهِـۧمُ رَبِّيَ ٱلَّذِي يُحۡيِۦ وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا۠ أُحۡيِۦ وَأُمِيتُۖ قَالَ إِبۡرَٰهِـۧمُ فَإِنَّ ٱللَّهَ يَأۡتِي بِٱلشَّمۡسِ مِنَ ٱلۡمَشۡرِقِ فَأۡتِ بِهَا مِنَ ٱلۡمَغۡرِبِ فَبُهِتَ ٱلَّذِي كَفَرَۗ وَٱللَّهُ لَا يَهۡدِي ٱلۡقَوۡمَ ٱلظَّـٰلِمِينَ} (258)

258

التفسير : إنه سبحانه ذكر ههنا قصصاً ثلاثاً ؛ أولاها في إثبات العلم بالصانع والباقيتان في إثبات البعث والنشور . فالقصة الأولى مناظرة إبراهيم ملك زمانه ، عن مجاهد أنه نمرود بن كنعان وهو أول من تجبر وادّعى الربوبية والمحاجة المغالبة بالحجة . والضمير في " ربه " لإبراهيم ، ويحتمل أن يكون ل " نمرود " ، والهاء في " أن آتاه " قيل لإبراهيم لأنه أقرب في الذكر ، ولأنه لا يجوز أن يؤتى الكافر الملك والتسليط ، ولأنه يناسب قوله { فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكاً عظيماً }[ النساء : 54 ] . وقال جمهور المفسرين : الضمير لذلك الشخص الذي حاج إبراهيم ، ولا يبعد أن يعطي الله الكافر بسطةً وسعةً في الدنيا .

ومعنى أن آتاه لله أي لأن أتاه الله الملك فأبطره وأورثه الكبر والعتو أو جعل محاجته في ربه شكراً له كقولك " عاداني فلان لأني أحسنت إليه " تريد أنه عكس ما كان يجب عليه من الموالاة لأجل الإحسان ، ويجوز أن يكون المعنى : حاج وقت أن آتاه . وعن مقاتل أن هذه المحاجة كانت حين ما كسر إبراهيم الأصنام وسجنه نمرود ثم أخرجه من السجن ليحرقه فقال : من ربك الذي تدعو إليه ؟ فقال : ربي الذي يحيي ويميت . وهذا دليل في غاية الصحة لأن الخلق عاجزون عن الإحياء والإماتة فلا بد أن يستند إلى مؤثر قادر مختار خبير بأجزاء الحيوان وأشكاله ، بصير بأعضائه وأحواله ، ولأمر ما ذكره الله تعالى في مواضع من كتابه فقال { ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين }[ المؤمنون : 12 ]{ وهو الذي خلقكم من تراب }[ غافر : 67 ]{ ألم نخلقكم من ماء مهين }[ المرسلات : 20 ] ويروى أن الكافر دعا حينئذٍ شخصين فاستبقى أحدهما وقتل الآخر وقال : أنا أيضاً أحيي وأميت . ثم للناس في هذا المقام طريقان : الأول وعليه أكثر المفسرين أن إبراهيم عليه السلام لما رأى من نمرود أنه ألقى تلك الشبهة عدل عن ذلك إلى دليل آخر ومثال آخر أوضح من الأول فقال { إن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب } قالوا : وفي هذا دليل على جواز الانتقال للمجادل من حجة إلى حجة . وأورد عليه أن الشبهة إذا وقعت في الأسماع وجب على المحق القادر على ذكر الجواب أن يذكر الجواب في الحال إزالة لذلك الجهل واللبس . ولما طعن الملك الكافر في الدليل الأول أو في المثال الأول بتلك الشبهة كان الاشتغال بإزالة ذلك واجباً مضيقاً فكيف يليق بالمعصوم أن يترك ذلك الواجب مع أن فيه إيهام أن كلامه الأول كان ضعيفاً ؟ ولئن سلمنا أن الانتقال من دليل إلى دليل حسن لكنه يجب أن يكون المنتقل إليه أوضح . لكن الاستدلال بالإحياء والإماتة على وجود الصانع أظهر وأقوى من الاستدلال بطلوع الشمس ، فإن جنس الحياة لا قدرة للخلق عليه ، وأما جنس تحريك الأجسام فللخلق قدرة عليه . وأيضاً دلالة الإحياء والإماتة على الحاجة إلى المؤثر القادر لكونهما من المتبدلات أقوى من دلالة طلوع الشمس لكون حركة الأفلاك على نهج واحد . وأيضاً إن نمرود لما لم يستحي من معارضة الإحياء والإماتة الصادرين عن الله بالقتل والتخلية ، فكيف يؤمن منه عند استدلال إبراهيم بطلوع الشمس أن يقول بل طلوع الشمس من المشرق مني ، فإن كان لك إله فقل له حتى يطلعها من المغرب . وعند ذلك التزم المحققون من المفسرين ذلك وقالوا : إنه لو أورد هذا السؤال لكان من الواجب أن يطلع الشمس من مغربها ، ومن المعلوم أن الاشتغال بإظهار فساد سؤاله في الإحياء والإماتة أسهل بكثير من التزام طلوع الشمس من المغرب ، فما الذي حمل إبراهيم على ترك الجواب عن ذلك السؤال الركيك ، والتزم الانقطاع ، واعترف بالحاجة إلى الانتقال ، وتمسك بدليل لا يمكن تمشيته إلا بالتزام اطلاع الشمس من المغرب ؟ ولما كانت هذه الاعتراضات واردة على الطريق الأول عدل بعض المحققين إلى طريق آخر وقالوا : إن إبراهيم عليه السلام لما احتج بالإحياء والإماتة قال المنكر : أتدعي الإحياء والإماتة من الله ابتداء أم بواسطة الأسباب الأرضية والسماوية ؟ أما الأول فلا سبيل إليه ، وأما الثاني فنظيره أو ما يقرب منه حاصل للبشر .

فإن الجماع يفضي إلى الولد بتوسط الأسباب ، وتناول السم يفضي إلى الموت ، فأجاب إبراهيم عليه السلام بناء على معتقدهم ، وكانوا أصحاب تنجيم - بأن الإحياء والإماتة وإن حصلا بواسطة حركات الأفلاك ، لكن الحركات والاتصالات لا بد لها من فاعل ومدبر ، وليس ذلك هو البشر فإنه لا قدرة لهم على الفلكيات ، فهي إذن بتحريك رب الأرض والسماوات . قلت : وفيه أيضاً طريق آخر نذكره في التأويلات إن شاء الله تعالى . { فبهت الذي كفر } يقال : بهت الرجل بالكسر إذا دهش وتحير ، وبهت بالضم مثله . وقد قرئ بهما وأفصح منهما القراءة المشهورة فبهت على البناء للمفعول لأنه يقال : رجل مبهوت ولا يقال باهت ولا بهيت قاله الكسائي . { والله لا يهدي القوم الظالمين } فلهذا لم ينفعه الدليل وإن بلغ في الظهور إلى حيث صار المبطل مبهوتاً محجوجاً ، فيعلم منه أن الكل بقضاء الله وقدره وبمشيئته وإرادته .

/خ260