الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِي حَآجَّ إِبۡرَٰهِـۧمَ فِي رَبِّهِۦٓ أَنۡ ءَاتَىٰهُ ٱللَّهُ ٱلۡمُلۡكَ إِذۡ قَالَ إِبۡرَٰهِـۧمُ رَبِّيَ ٱلَّذِي يُحۡيِۦ وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا۠ أُحۡيِۦ وَأُمِيتُۖ قَالَ إِبۡرَٰهِـۧمُ فَإِنَّ ٱللَّهَ يَأۡتِي بِٱلشَّمۡسِ مِنَ ٱلۡمَشۡرِقِ فَأۡتِ بِهَا مِنَ ٱلۡمَغۡرِبِ فَبُهِتَ ٱلَّذِي كَفَرَۗ وَٱللَّهُ لَا يَهۡدِي ٱلۡقَوۡمَ ٱلظَّـٰلِمِينَ} (258)

قوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي } : تقدَّم نظيرُه في قوله : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُواْ } [ البقرة : 243 ] . وقرأ عليٌّ رضي الله عنه : " تَرْ " بسكون الراء ، وتقدَّم أيضاً توجيهُها . والهاءُ في " ربه " فيهما قولان ، أظهرهُما : أنها تعودُ على " إبراهيم " ، والثاني : تعودُ على " الذي " ، ومعنى حاجَّه : أظهرَ المغالَبَة في حُجَّتِهِ .

قوله : { أَنْ آتَاهُ اللَّهُ } فيه وجهان ، أظهرهُما : أنه مفعولٌ من أجله على حذفِ حرفِ العلةِ ، أي : لأنْ آتاه ، فحينئذٍ في محلِّ " أَنْ " الوجهان المشهوران ، أعني النصبَ أو الجرَّ ، ولا بُدَّ من تقديرِ حرفِ الجرِ قبل " أَنْ " لأنَّ المفعول من أجله هنا نَقَّص شرطاً وهو عدمُ اتحادِ الفاعلِ ، وإنما حُذِفَت اللام ، لأنَّ حرفَ الجرِّ يطَّرد حَذْفُهُ معها ومع أنَّ ، كما تقدَّم غيرَ مرة . وفي كونِهِ مفعولاً من أجلِهِ معنيان ، أحدُهما : أنه من بابِ العكسِ في الكلام بمعنى أنه وَضَعَ المُحَاجَّة موضعَ الشكر ، إذ كان من حَقِّه أن يشكرَ في مقابلة إتيانِ المُلْك ، ولكنه عَمِلَ على عكس القضية ، ومنه : { وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ } [ الواقعة : 82 ] ، وتقول : " عاداني فلانٌ لأني أَحْسنت أليه " وهو باب بليغٌ . والثاني : أنَّ إيتاءَ المُلْكِ حَمَلَه على ذلك ، لأنه أورثه الكِبْرَ والبَطَرَ ، فتسبَّب عنهما المُحاجَّةُ .

الوجه الثاني : أنَّ " أَنْ " وما في حَيِّزها واقعةٌ موقعَ ظرفِ الزمان ، قال الزمخشري : " ويجوزُ أن يكونَ التقديرُ : حاجَّ وقتَ أَنْ آتاه " . وهذا الذي أجازه الزمخشري محلُّ نظرٍ ، لأنه إنْ عنى أنَّ ذلكَ على حَذْفِ مضاف ففيه بُعْدٌ من جهةِ أنَّ المُحاجَّةَ لم تقعْ وقتَ إيتاءِ اللهِ له المُلْكَ ، إلا أنْ يُتَجَوَّزَ في الوقتِ ، فلا يُحْمَل على الظاهِرِ ، وهو أنَّ المُحاجَّة وَقَعَتْ ابتداءَ إيتاءِ المُلْك ، بل يُحْمَلُ على أنَّ المُحاجَّة وقعتْ وقتَ وجودِ المُلْك ، وإنْ عنى أَنْ " أَنْ " وما في حَيَّزها واقعةٌ موقعَ الظرفِ فقد نَصَّ النحويون على منعِ ذلك وقالوا : لا يَنْوب عن الظرفِ الزماني إلا المصدرُ الصريحُ ، نحو : " أتيتُك صياحَ الديك " ولو قلت : " أن يصيح الديك " لم يَجُزْ . كذا قاله الشيخ ، وفيه نظرٌ ، لأنه قال : " لا ينوبُ عن الظرفِ إلا المصدرُ الصريحُ " وهذا معارَضٌ بأنهم نَصُّوا على أنَّ " ما " المصدريةَ تنوبُ عن الزمان ، وليست بمصدرٍ صريحٍ .

والضمير في " آتاه " فيه وجهان ، أحدُهما - وهو الأظهرُ - أن يعودَ على " الذي " ، وأجاز المهدوي أن يعودَ على " إبراهيم " أي : مَلَكَ النبوة . قال ابن عطية : " هذا تحاملٌ من التأويل " وقال الشيخ : " هذا قولُ المعتزلة ، قالوا : لأنَّ الله تعالى قال : { لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ } [ البقرة : 124 ] والمُلْك عهدٌ ، ولقولِهِ تعالى : { فَقَدْ آتَيْنَآ آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُّلْكاً عَظِيماً } [ النساء : 54 ] .

قوله : { إِذْ قَالَ } فيه أربعةُ أوجهٍ ، أظهرُها : أنه معمولٌ لحاجَّ . الثاني : أن يكونَ معمولاً لآتاه ، ذَكَرَهُ أبو البقاء . وفيه نَظَرٌ من حيث إنَّ وقتَ إيتاءِ المُلْكِ ليس وقتَ قولِ إبراهيم : { رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ } ، إلا أن يتُجَوَّز في الظرفِ كما تقدَّم . والثالث : أن يكونَ بدلاً من " أنْ آتاه الله المُلْك " إذا جُعِلَ بمعنى الوقت ، أجازه الزمخشري بناءً منه على أنَّ " أَنْ " واقعةٌ موقعَ الظرفِ ، وقد تقدَّم ضعفُهُ ، وأيضاً فإن الظرفَيْنِ مختلفان كما تقدَّم إلا بالتجوزِ المذكورِ . وقال أبو البقاء : " وذكر بعضُهم أنه بدلٌ من " أَنْ آتاه " وليس بشيءٍ ، لأنَّ الظرفَ غيرُ المصدرِ ، فلو كانَ بدلاً لكانَ غلطاً إلا أَنْ تُجْعَل " إذ " بمعنى " أَنْ " المصدرية ، وقد جاء ذلك " انتهى . وهذا بناءٌ منه على أنَّ " أَنْ " مفعولٌ من أجله/ وليست واقعةً موقعَ الظرفِ ، أمَّا إذا كانَتْ " أَنْ " واقعةً موقعَ الظرفِ فلا تكونُ بدلَ غلط ، بل بدلُ كلٍ من كلٍ ، كما هو قولُ الزمخشري وفيه ما تقدَّم ، مع أنه يجوزُ أَنْ تكونَ بدلاً مِنْ " أَنْ آتاه " و " أن آتاه " مصدرٌ مفعولٌ من أجلِهِ بدلَ اشتمالٍ ، لأنَّ وقتَ القولِ لاتساعِهِ مشتملٌ عليه وعلى غيره . الرابع : أنَّ العاملَ فيه " تَرَ " من قوله : " ألم ترَ " ذكره مكي ، وهذا ليس بشيءٍ ، لأنَّ الرؤيةَ على كِلا التفسيرين المذكورين في نظيرتِها لم تكنْ في وقتِ قوله : { رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ } .

و { رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي } مبتدأٌ وخبرٌ في محلِّ نصب بالقول . قولُه : { قَالَ أَنَا أُحْيِي } مبتدأٌ وخبرٌ منصوبُ المحل بالقول أيضاً . وأخبر عن " أنا " بالجملةِ الفعلية ، وعن " ربي " بالموصولِ بها ، لأنه في الإِخبارِ بالموصولِ يُفيد الاختصاصَ بالمُخْبَرِ عنه بخلافِ الثاني ، فإنه لم يَدَّعِ لنفسِهِ الخسيسةِ الخصوصيةَ بذلك .

و " أنا " ضميرٌ مرفوعٌ منفصلٌ ، والاسمُ منه " أَنْ " والألفُ زائدةٌ لبيانِ الحركةِ في الوقفِ ، ولذلك حُذِفَتْ وصلاً ، ومن العربِ مَنْ يُثبتها مطلقاً ، فقيل : أُجري الوصلُ مُجْرى الوقف . قال :

وكيفَ أنا وانتحالِ القوا *** في بعدَ المشيبِ كفى ذاك عارَا

وقال آخر :

أنا سيفُ العشيرةِ فاعرِفوني *** حَمِيداً قد تَذَرَّيْتُ السَّناما

والصحيح أنه فيه لغتان ، إحداهما : لغةُ تميمٍ ، وهي إثباتُ ألفه وصلاً ووقفاً وعليها تُحْمَلُ قراءةُ نافع فإنه قرأ بثبوتِ الألفِ وصلاً قبل همزةٍ مضمومة نحو : " أنا أُحيي " أو مفتوحةٍ نحو : { وَأَنَاْ أَوَّلُ } [ الأعراف : 143 ] ، واخْتُلِفَ عنه في المكسورة نحو : { إِنْ أَنَاْ إِلاَّ [ نَذِيرٌ ] } [ الشعراء : 115 ] ، وقراءةُ ابن عامر : { لَّكِنَّاْ هُوَ اللَّهُ رَبِّي } على ما سيأتي ، هذا أحسنُ من توجيهِ مَنْ يقول : " أَجْرِي الوصلُ مُجرى الوقف " . واللغةُ الثانية : إثباتُها وقفاً وَحَذْفُها وصلاً ، ولا يجوزُ إثباتُها وصلاً إلا ضرورةً كالبيتين المتقدِّمين . وقيل : بل " أنا " كلُّه ضمير .

وفيه لغاتٌ : أنا وأَنْ - كلفظِ أَنْ الناصبةِ - وآن ، وكأنه قَدَّم الألفَ على النونِ فصار أان . قيل : إنَّ المرادُ به الزمانُ ، [ و ] قالوا : أنَهْ وهي هاءُ السكت ، لا بدلٌ من الألف : قال : " هكذا فَرْدِي أَنَهْ " وقال آخر :

إنْ كنتُ أدري فعليَّ بَدَنَهْ *** من كَثْرةِ التخليطِ فيَّ مَنْ أَنَهْ

وإنما أثبت نافع ألفَه قبل الهمز جمعاً بين اللغتين ، أو لأنَّ النطقَ بالهمزِ عَسِرٌ فاستراح له بالألف لأنها حرفُ مدٍّ .

قوله : { فَإِنَّ اللَّهَ } هذه الفاءُ جوابُ شرطٍ مقدَّرٍ تقديرُه : قال إبراهيم إنْ زعمت أو مَوَّهت بذلك فإن الله ، ولو كانت الجملةُ محكيةً بالقولِ لَمَا دَخَلَتْ هذه الفاءُ ، بل كان تركيبُ الكلامِ : قال إبراهيم إنَّ الله يأتي . وقال أبو البقاء : " دخلَتِ الفاءُ إيذاناً بتعلُّق هذا الكلامِ بما قَبْلَه ، والمعنى إذا أدَّعَيْت الإِحياء والإِماتَة ولم تَفْهَمْ فالحجةُ أنَّ الله يأتي ، هذا هو المعنى " . والباءُ في " بالشمسِ " للتعديةِ ، تقولُ : أَتَتِ الشمسُ ، وأتى اللهُ بها ، أي : أجاءها . و " من المشرق " و " مِن المغرب " متعلقان بالفعلَيْن قبلهما ، وأجاز أبو البقاء فيهما بَعْدَ أَنْ منع ذلك أن يكونا حالَيْن ، وجَعَلَ التقدير : مسخرةً أو منقادةً . وليته استمرَّ على مَنْعِه ذلك .

قوله : { فَبُهِتَ } الجمهورُ : " بُهِتَ " مبنياً للمفعول ، والموصولُ مرفوعٌ به ، والفاعلُ في الأصل هو إبراهيمُ ، لأنه المناظِرُ له . ويُحْتمل أن يكونَ الفاعلُ في الأصل ضميرَ المصدرِ المفهوم من " قال " أي : فَبَهَته قولُ إبراهيم . وقرأ ابن السَّمَيْفَع : " فَبَهَتَ " بفتحِ الباءِ والهاءِ مبنياً للفاعلِ ، وهذا يَحْتَمِلُ وجهين ، أحدُهما : أن يكونَ الفعلُ متعدِّياً ، وفاعلُه ضميرٌ يعودُ على إبراهيم ، و " الذي " هو المفعولُ ، أي : فَبَهَت إبراهيمُ الكافرَ ، أي غَلَبة في الحُجَّة ، أو يكونُ الفاعلُ الموصولَ ، والمفعولُ محذوفٌ وهو إبراهيمُ ، أي : بَهَتَ الكافرُ إبراهيم أي : لَمّا انقطَع عن الحُجَّة بَهَته . والثاني : أن يكونَ لازماً والموصولُ فاعلٌ ، والمعنى معنى بُهِت ، فتتَّحدُ القراءتان ، أو بمعنى أَتَى بالبُهْتان . وقرأ أبو حَيْوة : " فَبَهُتَ " بفتح الباء وضمِّ الهاء كظَرُفَ ، والفاعلُ الموصولُ . وحكى الأخفش : " فَبُهِتَ " بكسر الهاء ، وهو قاصرُ أيضاً . فيَحصُلُ فيه ثلاثُ لغاتٍ : بَهَتَ بفتحهما ، بَهُت بضم العين ، بَهِت بكسرها ، فالمفتوحُ يكون لازماً ومتعدياً ، قال : { فَتَبْهَتُهُمْ } [ الأنبياء : 40 ] . والبَهْتُ : التحيُّر والدَّهَشُ ، وباهَتَه وبَهَته واجهه بالكذبِ ، ومنه الحديث : " إنَّ اليهودَ قومٌ بُهُتٌ " ، وذلك أن الكذب يُحَيِّر المكذوبَ عليه .