قوله تعالى : { والله يدعو إلى دار السلام } ، قال قتادة : السلام هو الله ، وداره : الجنة . وقيل : السلام بمعنى السلامة ، سميت الجنة دار السلام لأن من دخلها سلم من الآفات . وقيل المراد بالسلام التحية سميت الجنة دار السلام ، لأن أهلها يحيي بعضهم بعضا بالسلام والملائكة تسلم عليهم . قال الله تعالى : { والملائكة يدخلون عليهم من كل باب * سلام عليكم } [ الرعد- 23 ] . وروينا عن جابر قال : " جاءت ملائكة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو نائم فقال بعضهم : إنه نائم ، وقال بعضهم إن العين نائمة والقلب يقظان ، فقالوا : إن لصاحبكم هذا مثلا . قال : فاضربوا له مثلا . فقال بعضهم : مثله كمثل رجل بنى دارا ، وجعل فيها مأدبة ، وبعث داعيا ، فمن أجاب الداعي : دخل الدار ، وأكل من المأدبة ، ومن لم يجب الداعي : لم يدخل الدار ولم يأكل من المأدبة ، فقالوا أولوها له يفقهها ، قال بعضهم : إنه نائم ، وقال بعضهم : إن العين نائمة والقلب يقظان ، فقالوا : فالدار الجنة والداعي محمد صلى الله عليه وسلم ، فمن أطاع محمدا فقد أطاع الله ، ومن عصى محمدا فقد عصى الله ، ومحمد فرق بين الناس " . { ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم } ، فالصراط المستقيم هو الإسلام ، عم بالدعوة لإظهار الحجة ، وخص بالهداية استغناء عن الخلق .
وقوله : { وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ } الآية : لما ذكر تعالى الدنيا وسرعة [ عطبها و ]{[14180]} زوالها ، رغَّب في الجنة ودعا إليها ، وسماها دار السلام أي : من الآفات ، والنقائص والنكبات ، فقال : { وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } .
قال أيوب عن أبي قِلابة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " قيل لي : لتنَمْ عينُك ، وليعقلْ قلبك ، ولتسمع{[14181]} أذنك فنامت عيني ، وعقل قلبي ، وسمعت أذني . ثم قيل : سيّدٌ بَنَى دارًا ، ثم صنع مأدبة ، وأرسل داعيًا ، فمن أجاب الداعي دخل الدار ، وأكل من المأدبة ، ورضي عنه السيد ، ومن لم يجب الداعي لم يدخل الدار ، ولم يأكل من المأدبة ، ولم يرض عنه السيد فالله السيد ، والدار الإسلام ، والمأدبة الجنة ، والداعي محمد صلى الله عليه وسلم . {[14182]} وهذا حديث مرسل ، وقد جاء متصلا من حديث الليث ، عن خالد بن يزيد{[14183]} عن سعيد بن أبي هلال ، عن جابر{[14184]} بن عبد الله ، رضي الله عنه ، قال : خرج علينا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يومًا فقال : " إني رأيت في المنام كأن جبريل عند رأسي ، وميكائيل عند رجلي ، يقول أحدهما لصاحبه : اضرب له مثلا . فقال : اسمع سَمعت أذنك ، واعقل عَقَل قلبك ، إنما مَثَلُك ومثل أمَّتك كمثل ملك اتخذ دارا ، ثم بنى فيها بيتًا ، ثم جعل فيها مأدبة ، ثم بعث رسولا يدعو الناس إلى طعامه ، فمنهم من أجاب الرسول ، ومنهم من تركه ، فالله الملك ، والدار الإسلام ، والبيت الجنة ، وأنت يا محمد الرسُول ، فمن أجابك دخل الإسلام ، ومن دخل الإسلام دخل الجنة ، ومن دخل الجنة أكل منها " رواه ابن جرير . {[14185]} وقال قتادة : حدثني خُلَيْد العَصَري ، عن أبي الدرداء قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما من يوم طلعت فيه شمسه إلا وبجنَبَتَيْها ملكان يناديان يسمعهما{[14186]} خلق الله كلهم إلا الثقلين : يا أيها الناس ، هلموا إلى ربكم ، إن ما قلَّ وكَفَى ، خير مما كثر وألهى " . قال : وأنزل ذلك في{[14187]} القرآن ، في قوله : { وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } رواه ابن أبي حاتم ، وابن جرير . {[14188]}
القول في تأويل قوله تعالى : { وَاللّهُ يَدْعُوَ إِلَىَ دَارِ السّلاَمِ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ إِلَىَ صِرَاطٍ مّسْتَقِيمٍ } .
يقول تعالى ذكره لعباده : أيها الناس لا تطلبوا الدنيا وزينتها ، فإن مصيرها إلى فناء وزوال كما مصير النبات الذي ضربه الله لها مثلاً إلى هلاك وبوار ، ولكن اطلبوا الاَخرة الباقية ، ولها فاعملوا ، وما عند الله فالتمسوا بطاعته ، فإن الله يدعوكم إلى داره ، وهي جنّاته التي أعدّها لأوليائه ، تسلموا من الهموم والأحزان فيها وتأمنوا من فناء ما فيها من النعيم والكرامة التي أعدّها لمن دخلها ، وهو يَهْدى من يشاء من خلقه فيوفقه لإصابة الطريق المستقيم ، وهو الإسلام الذي جعله جلّ ثناؤه سببا للوصول إلى رضاه وطريقا لمن ركبه وسلك فيه إلى جنانه وكرامته . كما :
حدثني محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، قال : الله السلام ، وداره الجنة .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله : وَاللّهُ يَدْعُو إلى دَارِ السّلامِ قال : الله هو السلام ، وداره الجنة .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن أيوب ، عن أبي قلابة ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ، قال : «قيلَ لي : لِتَنمْ عَيْنُكَ ، وَلْيَعْقَلْ قَلْبُكَ ، وَلْتَسْمَعْ أذُنُكَ فَنامَتْ عَيْنِي ، وَعَقَلَ قَلْبِي ، وَسَمَعَتْ أُذُنِي . ثُمّ قِيلَ : سَيّدٌ بَنِي دَارا ، ثمّ صَنَعَ مَأْدُبَةً ، ثُمّ أرْسَلَ دَاعيا ، فَمَنْ أجابَ الدّاعِيَ دَخَلَ الدّارَ وأكَلَ مِنَ المَأدُبَة وَرَضيَ عَنْهُ السّيّدُ ، وَمَنْ لَمْ يُجِبِ الدّاعِيَ لَمْ يَدْخُلِ الدّارَ ولَمْ يَأْكُلْ مِنَ المَأْدُبَةِ ولَمْ يَرْضَ عَنْهُ السّيّدُ ، فالله السّيّدُ ، والدّارُ الإسلامُ والمَأدُبَةُ الجَنّةُ ، والدّاعِي مُحَمّدٌ صلى الله عليه وسلم » .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : واللّهُ يَدْعُو إلى دَارِ السّلامِ ويَهْدِي مَنْ يشَاءُ إلى صِراط مُسْتَقِيم ذُكر لنا أن في التوراة مكتوبا : يا باغي الخير هلمّ ويا باغي الشرّ انته
حدثني الحسين بن سلمة بن أبي كبشة ، قال : حدثنا عبد الملك بن عمرو ، قال : حدثنا عباد بن راشد ، عن قتادة ، قال : ثني خليد العصري ، عن أبي الدرداء ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ما مِنْ يَوْمٍ طَلَعَتْ فيهِ شَمْسُهُ إلاّ وبِجَنْبَتَيْها مَلَكانِ يُنادِيانِ ، يَسْمَعُهُ خَلْقُ اللّهِ كَلّهُمْ إلاّ الثّقَلَيْنِ : يا أيها النّاسُ هَلُمّوا إلى رَبّكُمْ ، إنّ ما قَلّ وكَفَى خَيْرٌ مِمّا كَثُرَ وألْهَى » . قال : وأنزل ذلك في القرآن في قوله : واللّهُ يَدْعُو إلى دَارِ السّلامِ ويَهْدي مَنْ يَشاءُ إلى صِراط مُسْتَقِيم .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ليث بن سعد ، عن خالد بن يزيد ، عن سعيد بن أبي هلال ، عن جابر بن عبد الله ، قال : خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فقال : «إنّي رأيْتُ فِي المنَامِ كأنّ جِبْرَائِيلَ عِنْدَ رأسِي وَمِيكائِيلَ عِنْدَ رِجْلَيّ ، يَقُولُ أحَدُهُما لِصَاحِبِه : اضْرِبْ لَهُ مَثَلاً فقال : اسْمَعْ سَمِعَتُ أُذُنُكَ ، وَاعْقِلْ عَقَلَ قَلْبُكَ ، إنّما مَثَلُكَ وَمَثَلُ أُمّتِكَ كمَثَلِ مَلِكٍ اتّخَذَ دَارا ثُمّ بَنى فِيها بَيْتا ثُمّ جَعَلَ فِيها مَأْدُبَةً ثُمّ بَعَثَ رَسُولاً يَدْعُو النّاسَ إلى طَعامِهِ ، فَمِنُهُمْ مَنْ أجابَ الرّسُولَ وَمِنْهُمْ مَنْ تَرَكَهُ فاللّهُ المَلِكُ ، والدّارُ الإسْلامُ ، والبَيْتُ الجَنّةُ ، وأنتَ يا مُحَمّدُ الرّسُولُ مِنْ أجابَكَ دَخَلَ الإسْلامَ ، وَمَنْ دَخَلَ الإسْلاَمَ دَخَلَ الجَنّةَ ، وَمَنْ دَخَلَ الجَنّةَ أكَلَ مِنْهَا » .
الجملة معطوفة على جملة { كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون } [ يونس : 24 ] ، أي نفصل الآيات التي منها آية حالة الدنيا وتقضيها ، وندعو إلى دار السلام دارِ الخلد . ولما كانت جملة { كذلك نفصل الآيات } [ يونس : 24 ] تذييلاً وكان شأن التذييل أن يكون كاملاً جامعاً مستقلاً جعلت الجملة المعطوفة عليها مثلها في الاستقلال فعُدل فيها عن الإضمار إلى الإظهار إذْ وضع قوله : { والله يدعو } موضع ندعو لأن الإضمار في الجملة يجعلها محتاجة إلى الجملة التي فيها المعاد .
وحُذف مفعول { يدعو } لقصد التعميم ، أي يدعو كل أحد . والدعوة هي : الطلب والتحريض . وهي هنا أوامر التكليف ونواهيه .
ودار السلام : الجنة ، قال تعالى : { لهم دار السلام عند ربهم } ، وقد تقدم وجه تسميتها بذلك في سورة [ الأنعام : 127 ] .
والهداية : الدلالة على المقصود النافع ، والمراد بها هنا خَلْق الاهتداء إلى المقصود بقرينة قوله : { مَن يشاء } بعد قوله : { والله يدعُو } المفيد التعميمَ فإن الدعوة إلى الجنة دلالة عليها فهي هداية بالمعنى الأصلي فتعين أنَّ { يهدي } هنا معناه إيجاد الهداية بمعنى آخر ، وهي حصول الاهتداء بالفعل ، أي خلق حصوله بأمر التكوين ، كقوله : { فريقاً هدَى وفريقاً حق عليهم الضلالة } [ الأعراف : 30 ] وهذا التكوين يقع إما في كل جزئية من جزئيات الاهتداء على طريقة الأشاعرة ، وإما بخلق الاستعداد له بحيث يقدر على الاهتداء عند حصول الأدلة على طريقة المعتزلة وهما متقاربان في الحال ، وشؤون الغيب خَفية . وقد تقدم شيء من ذلك عند قوله تعالى : { اهدنا الصراط المستقيم } [ الفاتحة : 6 ] .